وفي اليوم السابع عشر تعاظمت وحشية إسرائيل، بأن أصبحت تستهدف تجمّعات النازحين من بيوتهم واللاجئين في مدارس وكالة الغوث اللاجئين (الاونروا)، ومن دون إنذار حقيقي مسبق وتقتل العشرات وتجرح المئات.
وكان واضحاً أن أنياب العدو تبدّت بوضوح بعد المقاومة الشديدة التي يواجهها، والخسائر الكبيرة التي تصيب قواته في محاور القتال. فالحزام الناري الذي يفرضه على طول الحدود داخل قطاع غزة، وتهجير مئات الآلاف من المواطنين لم يوفر الأمن، لا للمستوطنات من خطر الصواريخ، ولا للجنود من خطر الكمائن والقذائف.
وقد استهدفت إسرائيل اللاجئين في مدرسة تابعة إلى “الاونروا” بعد أن أبلغت الصليب الأحمر الدولي بوجوب إخلائهم من المدرسة بعشر دقائق. وحسب ما أعلن كان الصليب الأحمر قد طلب من اللاجئين الانتظار لترتيب نقلهم إلى مكان أكثر أمناً، وقبل أن يتم النقل انهالت القذائف لتقتل حوالي 17، وتجرح حوالي 200، في مجزرة مروّعة. ولتأكيد الإجرام الإسرائيلي، ورغم كل الدلائل والاتصالات والصور، حاول الجيش الإسرائيلي ادعاء أن “حماس” قد تكون هي من أطلق القذائف، في محاولة لإثارة الشك في الجريمة ودوافعها. وقال متحدث باسم الجيش الإسرائيلي إن مدرسة “الأونروا” في بيت حانون أصيبت إما بقذيفة إسرائيلية ضالة، وإنما بقذائف مقصودة من “حماس”. ومع ذلك يعترف الجيش أنه أطلق قذائف هاون على المنطقة رداً على نيران وجهت نحو القوات الإسرائيلية في المحيط. وعموماً بلغ عديد الشهداء في القطاع منذ بدء العدوان أكثر من 800، ما يعني أن إسرائيل منذ تغيير سياستها النارية، صارت تتطلع لمعدل 100 شهيد يومياً، بدلاً من 50 كالمعهود في الأسبوع الماضي. وأصيب حوالى 5100 شخص.
وصار واضحاً أن الأمور تزداد تعقيداً بعد عجز إسرائيل بكل قوتها عن حسم المعركة وتكبّدها خسائر واضحة. وفيما أعلنت إسرائيل حتى الآن عن مقتل 32 من جنودها، تؤكد مصادر محايدة أن العدد أكبر من ذلك، وأن ظروفاً تحول دون الإعلان عن العدد الكامل. وقد أعلنت “كتائب القسام” عن نجاحها أمس في قتل ثمانية جنود إسرائيليين في كمين مدبّر لهم على أطراف حي التفاح في مدينة غزة، فيما أعلنت “سرايا القدس” نجاحها في قتل أربعة جنود في كمين آخر شرقي الشجاعية.
وبعد دخول العملية البرية يومها الثامن تكتشف إسرائيل أنها دخلت عش الدبابير، ولم تحقق جوهرياً أي غاية. وإذا كانت تدّعي أنها تحقق بعض غاياتها فإنها تكتشف أنها كانت غارقة في الجهل في كل ما يتعلق بالقطاع، سواء تعلق الأمر بالمقاومة ومواردها أو بطبيعة الحقد الذي ولده الحصار وينفجر في وجه الاحتلال. وهناك إشارات كثيرة على أنه إذا كانت “حرب لبنان الثانية” قادت إلى تقرير “فينوغراد” وحرب “الرصاص المسكوب” إلى تقرير “غولدستون”، فإن حرب “الجرف الصامد” ستقود إلى تقريرين في الوقت ذاته.
فالفشل هذه المرة ليس ميدانياً وحسب، وإنما هو أيضاً استخباري ومفهومي وسياسي بامتياز. وهذا الفشل سيقود إلى تعاظم المطالبات بتشكيل لجنة تحقيق رسمية لتحديد أسباب الفشل، والتي لا يمكن أن يتحملها أحد غير رئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو، الذي يرأس الحكومة منذ ست سنوات تقريباً. وبديهي أن الفشل سيطال الجانبين العسكري والسياسي، حيث لم تجد إسرائيل لا حلول عسكرية ولا سياسية للخطر الذي كان يتبلور في القطاع، من وجهة نظرها.
والفشل هذه المرة أيضاً كان في التقيّد بالقانون الإنساني والقانون الدولي، حيث كانت الانتهاكات فاضحة، وحيث لم ينتظر أحد انتهاء الحرب ليطالب بتشكيل لجنة تحقيق دولية. فمجلس حقوق الإنسان دعا إلى تشكيل لجنة فحص كمقدمة لتشكيل لجنة تحقيق دولية. وخلافاً لكل الحروب السابقة لم تعد إسرائيل تحاول التظلل بأي تبريرات قوية، وهي تستهدف المدنيين بشكل مفضوح، ليس فقط في بيوتهم وإنما أيضاً في “الملاذات” التي حاولت الأمم المتحدة توفيرها في مدارسها وفي بعض المستشفيات.
وتعدّ إسرائيل المزيد من ألوية المدرعات والمشاة لاستبدال القوات التي أنهكت في محيط القطاع، ولمحاولة امتلاك زخم يتيح توسيع العملية البرية وتحقيق تقدّم تحاول من خلاله قطع طريق صلاح الدين عند نقطة أو أكثر. ومن الجائز أن هذه الخطة التي تتردد إسرائيل في تنفيذها، تأتي في محاولة لتصعيد الضغط على المقاومة من ناحية وقطع طرق المواصلات في القطاع من ناحية أخرى. لكن هذه العملية تدفع الكثيرين للاعتقاد أن “حماس” أفلحت في إجبار الجيش الإسرائيلي على الغرق في رمال غزة، وأن قواته باتت أشدّ عرضة للاستهداف. ومع ذلك تتطلع إسرائيل إلى ما تعتبره صورة نصر، سواء عبر توسيع التمدد في القطاع أو عبر نشر صور لمن تدّعي أنهم أسرى فلسطينيون، بما يوحي أنهم مقاتلون. واضطرت أمس إلى الإفراج عن حوالي نصف المعتقلين البالغ عددهم 150، بعد ثبوت أنهم ليسوا من المقاومة.
كما تحاول الإيحاء بأن معركتها تحقق تقدماً، وأن مخزون الصواريخ لدى المقاومة في حرب الاستنزاف الجارية ينفد. فالمقاومة التي كانت تملك، وفق التقدير الإسرائيلي، تسعة آلاف صاروخ لم تعد تملك إلا أربعة آلاف. وكأن هذا العدد من الصواريخ لا يستطيع إدارة معركة بالوتيرة الحالية لشهر على الأقل.
وأياً يكن الحال، فإن المعركة تتعقد ليس فقط على الأرض وإنما أيضاً في غرف المفاوضات. وواضح أن الجهد الأميركي المكثف لإبرام اتفاق لوقف النار يواجه مشكلة كبيرة. ولا يبدو الآن في الأفق أي تحرك جدي لوقف النار، خصوصاً بعد أن أصبحت حكومة إسرائيل ترى في وقف النار خسارة لها، إذا ارتبط الأمر بسحب قواتها. ويصعب تخيل قبول “حماس” لوقف إطلاق نار يبقي القوات الإسرائيلية في مواقع توغّلها في القطاع.
وأعلن مسؤول أميركي رفيع المستوى أن وزير الخارجية الأميركي جون كيري سيقرر قريباً ما إذا كانت “حماس” وإسرائيل على استعداد للاتفاق على وقف لإطلاق النار ولن يبقى في المنطقة إلى أجل غير مسمّى.
نبض الضفة
وكان التطور الأبرز أمس هو ما يجري في الضفة الغربية بعد تصاعد تظاهرات الغضب. ومن المحتمل أن ما جرى قرب معبر قلنديا أمس هو بداية تحركات شعبية واسعة، خصوصاً بعد دعوة القيادة الفلسطينية الجمهور لأيام غضب ضد الاحتلال، وتضامناً مع غزة. وإذا توسّعت التظاهرات في الضفة فإن هذا لا يشكل فقط إسناداً معنوياً للقطاع، بل يعني فتح جبهة حقيقية جديدة. ويعتقد كثيرون أن اليوم الجمعة، وهو “الجمعة الحزينة”، يمكن أن يكون يوم البداية لانتفاضة جدية في الضفة الغربية.
وانطلقت واحدة من أضخم المسيرات التي شهدتها مدينة رام الله منذ سنوات، وشارك فيها نحو سبعة آلاف فلسطيني احتجاجاً على الجرائم الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة. واتجه المتظاهرون إلى مدينة القدس المحتلة في محاولة لإحياء ليلة القدر رغماً عن الاحتلال الذي أغلق الطرق المؤدية إلى المدينة وقيّد حركة الفلسطينيين. وسقط 4 شهداء بينهم الشاب محمد الأعرج، وأصيب أكثر من 150، خلال المواجهات التي اندلعت مع قوات الاحتلال على مدخل حاجز قلنديا.
كما تحرك عشرات الشبان داخل مدينة القدس، وحصلت مواجهات مع قوات الاحتلال في أحياء عدة داخل المدينة، حيث أصيب شبان عديدون بجروح واعتقلت الشرطة الإسرائيلية عشرات الفلسطينيين. واتسعت دائرة المواجهات إلى الخليل وبيت لحم.
وشهد مساء أمس تصعيداً كبيراً في إطلاق الصواريخ على إسرائيل انتقاماً للمجازر. وأعلنت “كتائب القسام” استهدافها لحيفا وتل أبيب ومطار اللد (بن غوريون) وبئر السبع وديمونا بصليات من الصواريخ. كما أن “سرايا القدس” عمدت ضمن برنامج عمليات “البنيان المرصوص” إلى توجيه عشرات الصواريخ إلى نطاق واسع، وصولاً إلى تل أبيب وبئر السبع. وأعلن الجيش الإسرائيلي أن مقاومين هاجموا من أنقاض مستشفى الوفاء قرب الحدود بالصواريخ المضادة للدروع قوة مدرعة إسرائيلية، من دون أن يُعلن عن إصابات في صفوفه.
وأعلن نتنياهو أن إسرائيل عازمة على مواصلة “الجرف الصامد” براً وجواً. وقد ردّ بذلك على مطلب وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند الذي طالب بوقف سريع للعملية البرية الإسرائيلية في القطاع. أما الرئيس الفلسطيني محمود عباس فوصل إلى عمان لعرض مطالب فلسطين لوقف النار. وكانت منظمة التحرير قد عرضت على أميركا والاتحاد الأوروبي والجامعة العربية وثيقة المطالب الفلسطينية، وعلى رأسها فك الحصار وفتح المعابر.