التقى قادة دول الحلف الاطلسي في “ويلز” البريطانية للبحث بما اسمي الاخطار الداهمة من الشرق ، “الخطر الروسي ” عبر البوابة الاوكرانية و “الخطر الارهابي” عبر نافذة تنظيم “الدولة الارهابية في العراق و الشام ” (داعش) . و قد خرج الحلفاء بقرارين يوحيان بوجود ارادة اطلسية حاسمة لمواجهة الخطرين بما يناسب كل منهما في طبيعته و ظرفه .
هدف القرار الاول لمواجهة روسيا و قطع الطريق عليها لمنعها من استعادة موقعها السابق عالميا و الحؤول دون احتلالها مقعد متقدم في نظام عالمي بدأ بالتشكل على اساس التعددية القطبية خلافا لما ارادته اميركا من تفرد بالقيادة العالمية ، و هو مقعد فتحت الطريق اليه المتغيرات التي تحققت على المسرح الدولي. خاصة ما افرزته المواجهة المعقدة و المركبة في اوكرانيا، و ما نجم عن العدوان الصهيو اميركي على سورية . حيث وقفت روسيا الى جانبها مستفيدة من نتائج الصمود السوري ضد العدوان الصهيواميركي ما استفز الغرب و دفعه الى معاقبتها على ما قدمته لسورية من دعم في تلك الحرب الدفاعية .
اما القرار الثاني فقد جاء ظاهرا لمواجهة “داعش” تحت عنوان “محاربة الارهاب “، و خرج بصيغة تجعل حسن النية يصدق بان اميركا ستقود جديا تحالفا دوليا فاعلا لتخليص العالم من وحشية هذا التنظيم الارهابي و جرائمه ، دون ان يلتفت الى ما يمكن ان يكون قد اخفاه من قطب و افخاخ تجعل منه جسرا لتحقيق اهداف معاكسة .
و مع هذين القرارين يطرح السؤال عن مدى قدرة الغرب على تحقيق الاهداف الحقيقية التي رمى اليها من خلال ما اتخذه من مواقف جاهر بها ، خاصة و انها تشكل الى حد ما انحرافا عن المفهوم الاستراتيجي للناتو المعتمد منذ العام 2010.
نذكر بان الناتو التزم في مفهومه الاستراتيجي الاخير بامرين اساسيين ، يتعلق الاول بطبيعة المواجهات التي سيخوضها فاعتمد نظرية الحروب البديلة و الظروف المولدة للازمات بما يتيح للغرب ادارتها و يسمح له بوضع اليد على مناطق الازمة دون الحاجة الى ارسال الجيوش التقليدية و فتح الجبهات و شن الحروب المكلفة له ، خاصة و انه لم يتعاف بعد مما اصابه في افغانستان و العراق و لبنان ، اما الثاني فقد نص على الانتقال العسكري االتدريجي من الشرق الاوسط الى الشرق الاقصى لاقامة الجدار الدفاعي الاستراتيجي المانع لتمدد العملاق الصيني بشكل يهدد المصالح الغربية خاصة الاميركية .
نص القرار الاول على تشكيل قوة تدخل عسكري سريع و ارسالها الى الجوار الروسي ، بما يشكل ظاهرا منحى استراتيجيا جديدا يختلف عن جوهر المفهوم المتقدم الذكر . و هو ما رأى الغرب ضرورته بعد ان وقف على خطأ حساباته في تقدير المستقبل الروسي ، خطأ جاء نتيجة حتمية لاخطائه في تقدير او توقع نتائج خططه في سورية و الشرق الاوسط ثم في اوكرانيا و شرق اروبا حيث كان الفشل حليفه في الميدانين ، فشل اتاح لروسيا ان تعود الى المسرح الدولي بهذا الزخم المقلق للغرب.
في سورية ظن الغرب ان مسرحية التظاهرات المصطنعة ستقود سريعا الى اسقاط الدولة ، فخاب ظنه و تكررت الخيبة مع كل خطة بديلة اعتمدها الغرب في سورية بدءا من خطة شرذمة الجيش وصولا الى خطط الحرب البديلة التي اعتمد الارهاب اساسا لها و مارسته القاعدة بفرعيها ” النصرة ” و داعش ” ، و لم تنحصر ارتدادات الاخفاق غربيا على الميدان السوري بل تمددت لتفتح الباب امام روسيا و تستدعيها للدخول الى الحلبة الدولية بوصفها قوة قادرة على بناء الموقع الاستراتيجي المؤثر عالميا و المساهمة في ارساء نظام عالمي جديد مخالف للرغبة الاميركية .
و عندما ذهب الغرب الى اوكرنيا بوصفها – حسب استراتيجييه – مفتاح التحكم بروسيا ، فوجئ بالاخيرة تقود حربا دفاعية عن مصالحها القومية و عن فضائها الاستراتيجي بشكل ذكي و جرئ اعتمد منطق الهجوم في معرض الدفاع ، و جعل الغرب المستفز يتحول شيئا فشيئا الى مواقع الدفاع و ردود الفعل الانفعالية و هو يتابع ما تنجزه روسيا في ذاك البلد خلافا لما توخى .
استطاعت روسيا و بوقت قصير نسبيا ان تكون اللاعب الرئيسي في اوكرانيا و ان تجهض مفاعيل خطة الغرب ضدها و تدفعه الى خيار بين حلين اما تحويل اوكرانيا كلها الى منطقة عازلة بينها و بين الناتو و في ذلك خسارة للغرب و امان كبير لروسيا يمنحها حرية التفرغ لمعالجة ملفات دولية اخرى تكون فيها ندا للغرب ، او ان تقسم اوكرانيا و تنشأ على حدودها الغربية دولة تتبع لها و تشكل الدرع الواقي او المنطقة الامنية التي تحجب خطر الغرب عنها مترافقا مع القاء عبء ما تبقى من اوكرانيا على الغرب و هو القسم الفقير، و في ذلك ربح روسي مضاعف .
ارّق هذا المشهد الاوكراني الغرب الذي وجد نفسه في الحفرة التي اعدها لروسيا ، و بات يخشى جديا ان تصبح اوكرانيا نموذجا تبني روسيا عليه سياستها و علاقتها مع دول الجوار بدءا بجورجيا و تتمكن في النهاية من ان تقيم على حدودها قوسا استراتيجيا يؤمن لها الدفاع عبر الحدود في مواجهة خطط الناتو الرامية الى تهميشها و منعها من العودة الى تشكيل قوة عظمى تنازعه القرار الدولي ، من اجل ذلك كان القرار الاطلسي بانشاء قوة تدخل سريع و الايحاء لروسيا بان الاطلسي جاد في المواجهة العسكرية معها بعد ان فشلت المواجهة الاقتصادية و سياسة العقوبات في ثنيها عن العمل في اوكرانيا و عن دعم سورية . فهل سيكون لهذا التلويح مفاعيل تحقق اهداف الغرب ؟
نعتقد ان روسيا استبقت القرار بما هو اهم منه استراتيجيا ، و قررت اعادة النظر بعقيدتها القتالية و اعتبار الناتو العدو التقليدي لها في استعادة لعقيدة الاتحاد السوفياتي فحققت الصلح مع الذات بالنسبة للجيش الذي كان احمرا منشّأ على العداء للرأسمالية الغربية و وجد نفسه في لحظة من اللحظات من غير عدو و من غير عقيدة فعلية تمكنه من التماسك و تطوير القدرات القتالية. و عندما تتخذ روسيا مثل هذا القرار تكون قد ازاحت كابوسا عن الصدر العسكري الروسي و شحنت معنويات الجيش بشحنة لا يعلم مداها الا من عايش اوضاع مماثلة .
و الان و على ضوء قرار روسيا بتغيير العقيدة ، و قرار الناتو بانشاء قوات التدخل السريع نسأل هل ان المواجهة بين الطرفين ستنحدر الى الانفجار الميداني و تفتح الجبهات العسكرية ام سيكون تراجع من احد االطرفين او مساكنة في حرب باردة ؟
اننا و بهدوء نقول ان الغرب اعجز من ان يقتدح حربا يعلم انه لن يجني منها الا الخسران ، ففي المجال التقليدي يعجز الغرب عن توفير القوى اللازمة لمواجهة روسيا ، و في المجال النووي يعلم الغرب انه ليس وحده يملك الازرار النووية ، و لا ينسى الغرب ان لروسيا من الحلفاء الاقوياء الذين سيحولون دون تحقيق الغرب اي انتصار حتى و لو كان جزئيا محدودا . لذلك ارى ان قرار التلويح بالتدخل العسكري ضد روسيا هو نوع من التهويل و الحرب النفسية التي لن تغير في مواقف روسيا التي سلكت الاتجاه الصحيح الى الموقع الاستراتيجي الذي تؤهله لها جغرافيتها السياسية .
اما عل صعيد القرار الثاني و المتعلق بانشاء “التحالف الدولي لمحاربة الارهاب ” الذي تمارسه “داعش ” ، فاننا و كما نقول دائما بان اميركا لا تريد الاجهاز على منتج ابتدعته و تستثمره في الميادين التي عجزت عن تحقيق النصر فيها ، و لسنا بحاجة الى التذكير مجددا بان اميركا لو كانت صادقة في حرب “داعش” لسلكت المسلك الناجع و الذي هو اسهل بكثير من المواجهة العسكرية ، سلوك يبدأ بتجفيف مصادر القوة و النمو الداعشي و هي مصادر توجد جميعها في قبضة حلفاء اميركا و اتباعها من تركيا الى الخليج ، تجفيف يترافق مع التعاون مع الجهات الصادقة في محاربة الارهاب بجدية و فعالية بالغة خاصة سورية و ايران اللتين ابدتا كل الاستعداد لذلك .
ان اميركا تعلم ان هذا السلوك (التنسيق و التجفيف) ، سيفضي الى القضاء السريع على الارهاب الداعشي ، خاصة اذا ترافق مع جهد اعلامي يحاصر هذا التنظيم ، لا كما يحصل الان حيث نجد الاعلام المسير اميركيا و غربيا في خدمة داعش . لكن اميركا ترفض القيام بشيء من ذلك و تجاهر برفضها التعاون مع محور المقاومة ضد الارهاب رغم جهوزية مكونات هذا المحور واستعدادها لخدمة الامن الاقليمي الدولي . لذلك تسارونا الشكوك بالموقف الاميركي الحقيقي و لا نرى قيمة فعلية لمشروع التحالف الدولي فيما خص داعش و هنا يبرز السؤال لماذا التحالف اذن ؟
ان اخطر ما يجول في الذهن حول قرار اميركا بانشاء “التحالف الدولي ضد الارهاب مقرونا بالترويج الاميركي بان الحرب طويلة قد تستغرق عشر سنوات و بحاجة لاستراتيجية ملائمة لم توضع بعد ، ان اخطر ما في الامر هو ما يمكن ان تضمره اميركا في الشأن اذا اننا و بعد ان اوضحنا قدرة اميركا على الوصول الى اهدافها ضد داعش و النصرة من غير تحالف دولي صاخب و الاكتفاء بتجفيف المصادر و تقديم المساعدة او اقله التنسيق مع الدول التي تشكل الان مسرحا لارهاب هذين الفصيلين نرى ان اميركا تقول شيئا و تضمر شيئا آخر ، فما هو هذا الشيء ؟
اننا نعتقد ان التوجه الحقيقي للحلف الاميركي هو ضد محور المقاومة ذاته ، و من اجل ذلك تتمسك اميركا بمقولة رفض التعاون مع الحكومة السورية ، و تؤكد عزمها للعمل مع جهات محلية في الميدان السوري لتقدم لهم الدعم الجوي هناك ، و تفتح الباب امام “الاخطاء” العسكرية كما فعلت في افغانستان و ليبيا و اغارت طائراتها على القرى الامنة و حفلات الاعراس وحولتها الى مآتم ، تقتل ابرياء مدعية الخطأ الذي لا يعقبه حتى الاعتذار .
و عليه نرى قرارت الناتو في ويلز هي تهويل فيما خص روسيا و خداع تهويلي مع شيء من الضبط خاصة في العراق فيما خص داعش و اخواتها ، و لكنها تشكل الخطة السابعة للعدوان على سورية و محور المقاومة بعد ان اسقطت سورية و حلفاؤها الخطط الست السابقة خلال السنوات الاربع الماضية . و تظن اميركا انها خطتها الجديدة قابلة للنجاح لما فيها من خدعة و توسيع قاعدة المشاركين .. و نظن ان ظنها خاطئ كما حساباتها السابقة.