ميسا حمدان : السفير
إن إعفاء الفلسطينيين (المسلمون، والمسيحيون، والدروز) في إسرائيل من الخدمة في الجيش ليس مدوّناً في بندٍ في القانون الإسرائيلي، فهم لم يخضعوا للفحوص والتسجيل في الجيش منذ تأسيس الدولة الإسرائيلية على أرض فلسطين.. وإنما تمّ الإعفاء في العام 1949.
في العام 1954، تجنّد مكتب الأمن الإسرائيلي من أجل ضمّ الفلسطينيين إلى الخدمة العسكرية، لكن المحاولة باءت بالفشل بعد مقاومة الفلسطينيين لهذه المحاولة.
في العام 1956، تمّ تجنيد الشباب الفلسطينيين الدروز، وغير المتدينين منهم تحديداً، بشكل إجباري. وفي العام 1958، تمّ تجنيد الشباب الشركس.
أعفيت النساء الدرزيات والشركسيات من الخدمة العسكرية.
المادة 46أ في قانون خدمة الأمن الإسرائيلي ينصّ على أن «كل من لا يكمل فترة خدمته المفروضة عليه قانوناً، يتوقع أسره مدة سنتين». أما المادة 46ب فتنص على أن «من يتهرّب من الخدمة قصدًا، يتوقع أسره مدة خمس سنوات كحد أقصى».
المادة مترجمة من قانون خدمة الأمن الإسرائيلي.
في العام 1976، قامت المؤسسة الإسرائيلية بفصل المجالس المحلّية التي تقع في القرى التي أُطلق عليها اسم قرى درزية، عن تلك التي تقع في باقي القرى العربية. وفي العام ذاته، فصلت المؤسسة المناهج التدريسية، فخصّصت أيضًا للمدارس التي تقع في القرى «الدرزية» منهجًا تدريسيًا خاصًا ضمّ مواد منتقاة، للمساهمة في التلاعب بالتاريخ والحقائق، وكتبوا على أغلفة الكتب: «لغة عربية للمدارس الدرزية»، «لغة عبرية للمدارس الدرزية»، «رياضيات للمدارس الدرزية»، وما إلى ذلك.
وقد تمّ اختلاق مادة جديدة لتُدرَّس في هذه المدارس سُمّيت «حصّة التراث»، ووُضعت هذه الحصة في مكانة حصص الدين بالنسبة إلى الطلاب المسيحيين والمسلمين. فكانت مخصصة للطلاب الدروز فقط، لكنها لم تضمّ أي مضمون ذي صلة بالدين الدرزي، إنما ضمّت معلومات عن الأماكن والمقامات المقدسة لدى الدروز في الشرق الأوسط، ومعلومات عن شخصيات درزية دينية وغير دينية، مثل المعلم كمال جنبلاط والشيخ عارف حلاوة والشيخ محمد أبو شقرا وغيرهم.
ساهمت هذه الحصة في قوقعة الطلاب الدروز وفكرهم، وكأن للدروز حقًا ماضياً مختلفاً وتاريخاً مختلفاً وثقافة مختلفة، ويعيشون واقعًا مختلفًا. بالإضافة إلى ذلك، وفي السياق التدريسي، فقد حوّلوا بعض المدارس الإعدادية إلى مدارس عسكرية، يذهب الطلاب إليها، الشبان منهم، بزيٍّ عسكريّ.
أما عيد الفطر فقد تم إلغاؤه بعدما كان أحد أبرز الأعياد الدينية للدروز، وتمّ استبداله بزيارات دينية لمقامات مقدسة مثل زيارة مقام النبي شعيب في حطين، أو زيارة مقام النبي سبلان وغيرهما.
ولعلّها ليست مجرّد صدفة أن حطّين هي قرية مهجّرة، وسبلان هو اسم قرية مهجّرة أخرى. الاثنتان تقعان في قضاء صفد (مادة للتفكير).
واقعة فرض الخدمة
فُرض التجنيد الإجباري باستخدام القوة. فقد تمّ إجلاء الفلاحين عن أراضيهم بسبب مقاومتهم، في وقتٍ شكّلت فيه الأرض مصدر المعيشة الأول والأهم. وتمّت ملاحقة العديد ممن تهرّبوا من تأدية الخدمة.
تقول الرواية الإسرائيلية إن وجهاء الفلسطينيين الدروز من مشايخ وأعلام (عددهم 16 من مجموع الفلسطينيين الدروز في الأراضي المحتلة آنذاك) توجّهوا إلى سلطات الاحتلال طالبين الخدمة في صفوف الجيش، وقاصدين أن يكونوا جزءًا منه، ووقعوا اتفاقية تؤكد ذلك. ولكن، ليست هناك أيّ وثيقة تدلّ على صحة الادعاء، وهذا ما أكده البروفيسور قيس فرو في بحثه.
وبما أن المجتمع العربي يعتبر مجتمعًا دينيًا، فقد تمّ اختراق الدروز من خلال المؤسسة الدينية التابعة لهم، والتأثير عليهم من خلالها. إذ أن ما هدفت إليه المؤسسة الإسرائيلية هو خلق قومية خاصة بالدروز، على طريقة اعتبار اليهودية دينًا وقوميّة. فاعترفت إسرائيل بالدروز كأقلية قومية في العام 1957، على الرغم من الحراك الرافض للتجنيد حينها، نذكر منه مجموعة أنشئت بمبادرة من الشاعر سميح القاسم والشهيد عاصم الخطيب، أطلقت على نفسها في ما بعد اسم «لجنة المبادرة العربية الدرزية» وانضمّت إلى «الحزب الشيوعي».
اليوم، يحقّ للشاب الدرزي أن يُعفى من الخدمة في حالتين: إثبات عدم الأهلية النفسية، والانخراط في السلك الديني. وفي حال تخلّفه عن الالتحاق، يواجه الشاب خطر السجن لمدة تتراوح بين أسبوعين وثلاث سنوات، تتغيّر تبعاً لمزاج المؤسسة، فلا يحميه إلا الحصول على إفادةٍ تشير إلى عدم الأهلية النفسية، ليس من السهل استخراجها. بالإضافة إلى ذلك، تعمل المؤسسة على التأثير على الشاب نفسيًا، بحيث توهمه بأنه لا يستطيع العمل أو الدراسة أو حتى الحصول على رخصة قيادة في حال رفض الخدمة، وتعمل على إغرائه من خلال طرح مسارات تعليمية إلى جانب الخدمة في الجيش.
كيف تمّ التجنيد؟
العامل الأول والأشد تأثيراً في خضوع الدروز للتجنيد الإجباري هو الأرض. فبعدما قاوم الدروز التجنيد لسنواتٍ عدّة، وفرّ الكثير من الشباب، كلٌّ إلى الحرش القريب من بلدته، حتى أن بعضهم مكث هناك لأيام وأسابيع، وعدت سلطات الاحتلال الدروز بعدم مصادرة أراضيهم، مقابل قبولهم الخضوع للخدمة في الجيش، والسماح لهم بممارسة حقهم الطبيعي في الزراعة.
وفي ما بعد، دفعت عوامل أخرى بالشباب الدرزي إلى التجنيد من دون تردّد، منها: توفير قطعة أرض للبناء لكل شاب فور انتهائه من الخدمة، وتوفير ميزانيات لتطوير البنى التحتية في كل قرية. ومن الناحية المهنية، لا يحتاج العمل في سلك الأمن والشرطة شهادةً جامعية أو حتى مدرسية، فيضمن الشاب بذلك عمله من دون الحاجة إلى العلم.
لقد رسّخت سلطات الاحتلال فكرة حلف الدم في ذهن كل شابٍ درزيّ. وعليه، ادّعت أن الدروز متساوون في الحقوق والواجبات مع اليهود في الدولة. فأضحى جزء واسع من الدروز لا يعترف بفلسطينيته أو حتى بعروبته. وبعد سبعة وخمسين عاماً من فرض الخدمة العسكرية الإجبارية، أصبح نهج حياة قسم من العائلات الدرزية مقروناً بسلك الأمن أو الشرطة. ما يحافظ أيضًا على مجتمع أبويّ ذكوريّ: فالشاب الدرزي، إذا تزوّج وهو يعمل في أحد الأسلاك الأمنية، يزداد أجره.. وكثيرًا ما يعمل خارج البيت لأيام أو لأسابيع متتالية، ما يجبر الزوجة على أن تمكث في بيتها وتربّي أولادها، بما يحفظ للمجتمع المحافظ تقليديته.
في المقابل، فإن القانون الدولي لحقوق الأقليات يمنع تجنيدهم إجباريًا أينما كانوا. فتستخدم المؤسسة الإسرائيلية لغة الحقوق والواجبات مع الدروز الذين صدقوها حتى صدمهم الواقع: حتى الآن، تمّت مصادرة نسبة تفوق 80 في المئة من أراضي الفلسطينيين الدروز، وتم هدم العديد من البيوت في قرى عدّة بحجة عدم الترخيص.
أرفض..
شهد العام 2014 تطوراً ملحوظًا في سياق التجنيد الإجباري المفروض على الفلسطينيين الدروز. فقد ظهر على الساحة حراك «أرفض، شعبك بيحميك»، هو الأول من نوعه في رفض الخدمة الإجبارية. وتلقّى الحراك الدعم المعنوي والتشجيع من قبل جهاتٍ وأطرٍ عديدة في المجتمع الفلسطيني، وبنى لنفسه قاعدة شعبية داعمة.
ينشط في الحراك حوالي 40 ناشطاً وناشطة ملتزمين العمل، يضاف إليهم عدد كبير من المتطوعين. وهو لم يخرج بمضمونه وناشطيه إلى الضوء في ليلةٍ وضحاها، وإنما بدأت الاجتماعات التنظيمية له منذ العام 2010 بهدف بلورة الخطاب وصقله.
في بداية العام 2014، تنظّم الحراك، بمساعدة من مؤسسة «أهل» الأردنية للتنظيم المجتمعي. وانطلق على شكل حملة، وحمل اسمه «أرفض، شعبك بيحميك» في آذار 2014، في تظاهرة اعتبرت فارقة في سياقه أمام سجن عتليت العسكري. التحرّك اللافت الثاني كان مؤتمراً واسعاً نظمه الحراك في مدينة شفاعمرو، تمّ خلاله تكريم رافضين من مناطق مختلفة، والاحتفاء برافضين جدد.
يذكر أنه منذ انطلاقة الحملة، قصد الحراك أكثر من 20 شاباً هدفهم رفض الخدمة الإجبارية. وتمّت وتتم مرافقتهم قانونياً ومعنوياً.
آلية عمل فرق الرفض
يُعرّف الحراك على أنه شبابيّ، غير حزبيّ، غير محصورٍ في إطار طائفي، يضمّ شابات وشباباً من مختلف المناطق والمذاهب، اجتمعوا حول هدف مناهضة كافة أشكال التجنيد التي تسعى المؤسسة الإسرائيلية إلى فرضها على الفلسطينيين في الداخل المحتلّ، مع تركيز الجهود بدايةً على مناهضة التجنيد العسكري الإجباري المفروض على الشباب العرب الدروز.
ويرتكز الحراك في منطقه على قيمٍ إنسانية، وعلى تثبيت الهوية العربية الفلسطينية لفلسطينيي 48. أما نجاح المجموعة الأول فيكمن في توسيع قاعدة الرافضين/ات والمناهضين/ات وتفعيلهم/ن حتّى تصدر وزارة الدفاع قراراً باستثناء الشباب الدروز من التجنيد الإجباري، إسوة بسائر المواطنين العرب الفلسطينيين في الأرض المحتلّة في العام 48.
التحدّي الأكبر والدافع للتحرك هو إعادة بناء الهوية في أذهان الشباب العرب الدروز، وكسر الصورة النمطية التي نجحت المؤسسة الإسرائيلية رسمها عن الدروز في أذهان سائر الفلسطينيين، بعد شرخٍ دام أكثر من 57 عاماً، أي منذ فرض التجنيد الإجباري على الشباب العرب الدروز.
لتحقيق أهدافه، يعمل الحراك على مستويات عدّة. فهو يضم:
1) الفريق المؤسس: مكوّن من عشرة أشخاص، يجتمع بشكل أسبوعي، ويتبع في تنفيذ النشاطات خطة عمل مدتها سنة، تنتهي في آذار 2015. بعدها، توضع خطة عمل للسنة التي تليها.
2) فريق التشبيك القطري: يُعنى بالتشبيك مع أطر وجمعيات ومؤسسات محلية وعالمية، وبضمّ فلسطينيين من الأقطار كافة، انطلاقاً من قناعة بأن قضية التجنيد الإجباري هي قضية الشعب الفلسطيني وليست قضية فئة من دون غيرها. وقد أطلق فريق التشبيك القطري عريضة لرفض التجنيد الإجباري، كما أطلق صندوق المنح لتوفير منحٍ دراسية للشباب الرافضين. كما يعمل هذا الفريق على أرشفة أسماء الرافضين منذ العام 1956 حتى اليوم، من خلال التواصل المباشر مع الرافضين والحصول على موافقة منهم بنشر أسمائهم.
هنا رابط للعريضة:
http://www.irefuse.info/?page_id=22
3) فريق دعم الرافض: يُعنى أساساً بمرافقة الشباب المترددين/المتخبطين والراغبين برفض التجنيد، قانونياً ومعنوياً، وذلك بفضل طاقم المحامين/ات المتطوع ضمن الحراك. وقد أطلق فريق دعم الرافض كرّاساً لدعم الرافض يحمل إجابات عن الأسئلة التي من الممكن أن تجول في خاطر أيّ شاب درزي مُجبر على الخدمة، عند تلقيه لأمر التجنيد. كما يعمل الفريق على تأهيل عدد من الشباب الراغبين بالعمل في إطار التحرّك في القرى المختلفة، وقد أطلقوا عليهم اسم: «شبيبة أرفض».
وقد أطلق هذا الفريق أيضًا خطًا ساخناً للدعم، يحمل رقم هاتف وبريداً الكترونياً.
4) فريق التواصل الاجتماعي: يُعنى بمضمون الحراك، انطلاقاً من أن رفض التجنيد الإجباري يجب أن يأتي عن قناعة ووعي تام. فيقوم العمل في هذا الفريق على تطوير تكتيك الاجتماعات المنزلية التي تعقد في البيوت في القرى، بهدف إثارة النقاش. كما يجول الناشطون على مناطق الضفّة والقدس، يلقون فيها محاضرات بهدف كسر الصورة النمطية عن دروز الداخل. وقد أطلق الفريق ورقة تثقيفية عن ترابط العرب الدروز بالحركة الوطنية الفلسطينية قبل 48 وبعدها، كما يعمل الفريق على إصدار بحث حول الهوية العربية الفلسطينية لدى العرب الدروز.
5) الفريق الإعلامي: وهو الفريق الذي يشكّل واجهة الحراك. فمن خلاله تدار الصفحات الرسمية والموقع، كما التواصل مع الشبكات الإعلامية في مناطق عدّة وبلغات عدّة. ويهتم بإنتاج المرئيات والملصقات والمناشير، ويعمل على تدويل القضية من خلال نشرها على أوسع نطاق ممكن.
ميسا حمدان: السفير