كان هنالك بلد اسمه لبنان

 

جان عبيد

مسألة التمديد للمجلس النيابي لا تزال تعصف بتداعياتها على الرغم من محاولات بعضهم إطفاءها. فقد قرّر نواب “التيار الوطني الحر” تقديم طعن، يحاول بعضهم التخفيف من وهجه، على أساس أنّ هذه المسألة اكتسبت ميثاقيتّها وشرعيّتها بالغطاء المسيحيّ الذي تمّ توفيره من قبل “القوات اللبنانية” ككتلة وازنة ومن النائب سليمان فرنجية الذي قرّر مجاراة رئيس المجلس النيابي نبيه بري و”حزب الله” بالتصويت إلى جانب التمديد. لكنّ المسألة تحتاج لمزيد من التدقيق من باب إقرار الحق، وتصويب المنحى الآخذ بلبنان إلى هاوية سياسيّة دستوريّة ستحتاج إلى الكثير من الوقت للنهوض منها ومن كبواتها.
ليس ثمّة أسباب موجبة أباحت التمديد بالمعنى الأمنيّ، وقد شهد لبنان مجموعة مناسبات حاشدة من عاشوراء إلى الماراتون أثبتت مناعة الأمن فيه، وثبّتت قدرته على التكيّف وعلى الإمساك الكثيف. من سار في التمديد في أساسه وجوهره فهم أنّه أملي نتيجة تفاهمات تمت الإشارة إليها غير مرة. ذلك أنّ الحراك الجديد على ساحة المنطقة بأت أبعد مدى من التفاصيل الصغيرة لكونها تجيء مولودة من رحم العناوين الكبيرة.
العناوين الكبرى التي أملت بهذا الحراك غير محصورة بلبنان. ما يفهم اليوم في نطاق المحادثات الجارية بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران بأن ثمّة رؤى جديدة مبثوثة انكشفت بالتحولات الجذريّة القائمة بين الدولتين، وهما وازنتان ومؤثرتان في المنطقة. يقول مصدر دبلوماسيّ غربيّ “بأن تنظيم داعش وتصديعه لبنى المشرق العربيّ أملت تلك التحولات الواضحة على حساب قوى أخرى كالسعودية وتركيا، إذ إن إيران كسبت المعارك من لبنان إلى جزء كبير من سوريا وصولاً إلى اليمن… لا يمكن الحياد عن طهران، بل ثمّة تسليم بدورها على كلّ الأصعدة والبدء بمفاوضات جديّة ترسم الخطوط الجديدة لعناوين الصراع في المنطقة، وأثبت حزب الله أنّه وجهها على المتوسط، ويملك القدرة بحربه في سوريا وعلى الحدود”.
وفي حديث معه، سئل عن معنى التسليم ومحتواه، فأجاب: “لا يعني التسليم الاستسلام حتمًا. فثمّة أمور ليس من اتفاق حولها بعد. لكن العقل الأميركيّ عاد إلى توازنه الموضوعيّ في المقاربات التي يجريها، ونحن نراقب بدقّة ذلك التحوّل في إيران وبالتحديد في رؤيتها العقيديّة تجاه الغرب. إذ مع الرئيس حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف وهو خريج جامعة هارفارد لمسنا تجرّدًا وبراغماتيّة في مقاربة مواضيع الصراع. فهما قاما بمجموعة مراجعات نقديّة حتّمت التحوّل. وأعتقد -والكلام للمصدر الدبلوماسيّ- بأنّ الإدارة الأميركيّة قامت بدورها بمراجعات نقديّة حول الصراع في سوريا والعراق وإجرام داعش وما تحقّق من نتائج آنية أو بعيدة المدى، وهي لا تزال تحت الفحص المجهريّ، كما قامت بتقييم دقيق للدورين السعوديّ والتركيّ فوجدته انفعاليًّا استئثاريًّا لم يؤدِّ إلاّ إلى فشل تلو الفشل سواء في سوريا أو المسألة الكرديّة أو سواها. لا يمكن للأميركيين وبعد الفشل في العراق تحمل فشل آخر في سوريا أو سواها، ولا يمكن، تاليًا، الاستمرار بممارسة سياسة عدائيّة تجاه إيران في ظلّ التفاعل الإيجابيّ الذي أظهرته مع الأميركيين والفرنسيين… إنّ السياسة العدائيّة مع إيران، أثبتت عقمها وخواءها وليس فيها شيء من صفاء وصواب. لقد بدت شديدة الانحياز للدور الإسرائيليّ كما للإرادة الخليجيّة، وهذا بدوره أرهق الغرب كثيرًا، في ظلّ تمدّد واضح للتكفيريين وتأثيرهم على الشباب الأوروبيّ وانغراس هذا التأثير بالسلوكيات السياسيّة والثقافيّة. فلا بدّ وبعد هذا التراكم من تقييم تمّ إجراؤه، والغرب مقتنع بضرورة الانفتاح على إيران والتجانس معها لإرساء الحلول في اليمن وسوريا والعراق ولبنان”.
وتعود مع المصدر الدبلوماسيّ إلى لبنان، فيسأل هل التمديد للمجلس النيابيّ انطلق من تفاهم مع إيران والسعوديّة، ولماذا تفوح الرائحة بأنّ ثمّة قرارًا دوليًّا فيه؟ أجاب: “لم يدخل الأميركيون بالتفاصيل على الإطلاق، وليسوا هواة حتى ينكشفوا، ما يهمّنا من لبنان عدم انزلاقه كسوريا والعراق واليمن وليبيا في مستنقعات حروب قاتلة. لقد سررنا كثيرًا بالحسم السريع الذي قام به الجيش في طرابلس، وأثبت قدرات قتاليّة هائلة. كما يهمّنا أن لا تتحول الحرب من الأرض إلى المؤسسات في الدولة تحت عنوان الفراغ، بل يهمّنا الاستقرار العمليّ، لأنّ الانزلاق اللبنانيّ قد يستثمر من قبل القوى التكفيريّة لتوسيع حراكهم وسيطرتهم بطريقة أو بأخرى فوق الأطلال اللبنانيّة”. وأضاف: “نحن لا نملي شيئًا على اللبنانيين، إنّما سمعنا من المسؤولين السياسيين خشيتهم من إجراء الانتخابات النيابيّة قبل الرئاسيّة، بعضهم علّل ذلك لأسباب دستوريّة، وبعضهم الآخر لأسباب أمنيّة”. ماذا عن التأثير السعوديّ؟ أجاب: “حتمًا السعوديون معنيون بلبنان، لهم تاريخ طويل في الأزمات السياسيّة العاصفة، وهم من استضاف النواب اللبنانيين في مدينة الطائف حيث أقرّ الاتفاق الذي سمي اتفاق الطائف. وفي ظلّ مناخ الانفتاح على إيران حرص السعوديون أيضًا بعدم الوقوع في الفراغ السياسيّ والدستوريّ في لبنان”.

ويسأل لماذا برأيكم تتمّ الأمور على حساب المسيحيين؟ فيجيب متسائلاً بتهكّم واضح: “وهل المسيحيون متفقون على العناوين الخلاصيّة بدلاً من الإيغال في العناوين الخلافيّة بل الصداميّة؟ لقد شاءوا أن يكونوا جزءًا من هذا الصراع ولو على حساب وجودهم… عليهم قبل كلّ شيء الاتفاق على خطوط حمر جامعة، ويدركون أنّنا بتنا على قاب قوسين من تغييرات جذريّة ستؤثّر حتمًا على مشهدية الصراع في سوريا والعراق من حيث النتائج القصيرة المدى أو الطويلة المدى. عليهم وبدلاً من التشاحن، استقراء علامات الأزمنة والتصرّف على أساس أن الخطر الوجوديّ قائم ويقتضي قيام اتفاق ولو بالحد الأدنى لأنّ مصلحتهم بالاتفاق أفضل بكثير من الصراع على مكاسب سخيفة”. هل إن انتخاب رئيس جمهوريّة قويّ يساهم، فيجيب “الانتخاب نتيجة لاتفاقهم… الكرة في ملعبهم وعليهم أن يقيسوا اللعبة بالمعايير الدقيقة التي تحفظ أمنهم وسلامهم ودورهم ليس في بقائهم ضمن الدائرة اللبنانية بل كناطقين باسم المسيحيين العرب وحماة لهم”.
تنتهي الأسئلة والأجوبة… وتحدّق إلى البعيد، لتقرأ بأن كان هنالك بلد اسمه لبنان، وبنتيجة القراءات المتراكمة يتلمّس المحللون خطورة الموقف الذي يبيح هذا الانطباع. فحين يضرب الدستور والميثاق بعرض الحائط، ويتم التمديد بناء على إملاءات حذّرت من الفراغ، ويتجسّد ذلك بتمزّق مسيحيّ-بنيويّ استفادت منه الطوائف الأخرى، حينئذ تصل إلى هذا الاستنتاج المقيت.