لم يَكن يَنقص تعقيدات ملفّ العسكريّين اللبنانيّين المَخطُوفين سوى الإعلان عن إطلاق أسير “حزب الله” في مقابل الإفراج عن أسيرين فقط للمُسلّحين، لترتفع درجة إحتقان الأهالي الواقعين كلّياً تحت سطوة الخاطفين الإرهابيّين الذين يُهدّدونهم بحياة أولادهم، إلى أعلى المُستويات، في ظلّ إبتزاز ورُضوخ ومُزايدات و”فيتو”. فهل من أملٍ بحلّ قريب لملفّ الأسرى العسكريّين؟
بداية لم يكن مُناسباً إطلاقاً مُحاولة تخفيف الثمن الذي جرى دفعه في مقابل إطلاق الأسير عماد عيّاد، لأنّ أحداً لم يُصدّق هذا الأمر سوى أهالي المخطوفين الذين يَبحثون عن حبال الهواء للتعلّق بها. فمُسلّحو المُعارضة السوريّة ليسوا أغبياء لدرجة التفريط بالعُنصر الوحيد الذين تمكّنوا من أسره حَيّا خلال كلّ معاركهم مع “حزب الله”، في مقابل مُجرّد عُنصرين عاديين منهم، وأصلاً مُبادلة بهذه البساطة لا تحتاج لأسابيع مُضنية من المحادثات الصعبة والشاقة، كما تردّد. وبالتالي، لا يُهمّ الثمن الفعلي الذي جرى دفعه لتحرير عيّاد، ولا يهم مدى صحّة عشرات الأخبار والروايات التي نُسجت في هذا الصدد، ومنها مثلاً عن القبض على مسؤولين عسكريّين في عمليّة أمنيّة دقيقة، لكن الأكيد أنّ صفقات من هذا النوع تتضمّن عادة شروطاً مُعقّدة بعضها يتمّ سلفاً، وبعضها الآخر يجري بشكل مُواز لعمليّة الإطلاق، وجزء ثالث يحصل بعد إتمام الإفراج. وصفقة إطلاق الحجّاج الإيرانيّين الذين إحتجزوا في سوريا منذ نحو سنتين خير دليل على ذلك، حيث تواصلت عمليّات إطلاق معتقلين من السجون السورية لأسابيع عدّة بعد إتمام صفقة إطلاق 48 إيرانياً، في ظلّ نفي النظام السوري لموافقته على أيّ مُبادلة.
وبالتالي، ليس صحيحاً أنّ عيّاد أطلق في مقابل عُنصرين أسيرين عاديّين، والأهمّ أنّ هذا الإعلان التخفيفي، إذا جاز التعبير، أضرّ بملفّ الأسرى العسكريّين اللبنانيّين، علماً أنّه من غير الواقعي أصلاً ربط ملفّ الأسرى العسكريّين بأسير “حزب الله”، لأنّ هذا الأخير يملك “نقاط قوّة” تُخوّله التفاوض من موقع مُختلف عن الدولة. وفي هذا السياق:
أوّلاً”: “حزب الله” مُنتشر عسكرياً في القلمون وفي سوريا، وقادر بالتالي على ممارسة ضغوط عسكريّة مباشرة على المُسلّحين، بعكس الدولة القادرة على ممارسة ضغط حدودي فقط.
ثانياً: “حزب الله” المتواجد إلى جانب الجيش السوري في العديد من المناطق في سوريا، قادر على تنفيذ عمليّات دهم وإعتقال في أي مكان وضد أيّ شخص، لرفع درجة الضغط ضد الخاطفين، وهو ما تفتقده الدولة القادرة على التحرّك حصراً داخل الأراضي اللبنانية.
ثالثاً: تنسيق “حزب الله” المباشر مع القيادة السوريّة يُخوّله تنسيق طلب الإفراج عن أيّ مُعتقلين في سجون النظام، بينما تُواجه الدولة اللبنانية مُشكلة كبيرة في هذا الصدد، في ظلّ إهتزاز العلاقة السياسية مع دمشق، وفي ظلّ مُعارضة بعض القوى اللبنانيّة لأيّ تنسيق أمني مع النظام السوري.
رابعاً: “حزب الله” ليس دولة مُرتبطة بمواثيق دَوليّة، وهو يُمكنه تجاوز القوانين والأعراف في ممارسة أيّ طريقة ضغط يراها مناسبة، وذلك على كل ما له علاقة بالجهات الخاطفة وأهاليهم، بعكس الدولة المُقيّدة بشروط الأداء الرسمي ومواثيقه.
ومن ضمن المشاكل الرئيسة التي تُواجهها الدولة اللبنانيّة في ملف مخطوفيها أيضاً، رضوخ أهالي العسكريّين الأسرى كلّياً للخاطفين الإرهابيّين، بينما جرى إبلاغ أهل أسير “حزب الله” من اللحظة الأولى أنّ أفضل طريقة للحفاظ على حياة عيّاد هي إعتباره ميتاً، وهذا ما نفّذه أهله بأعصاب فولاذيّة. لكن ومن باب الإنصاف، إنّ رضوخ أهالي العسكريّين اللبنانيّين لم يأت من العدم، بل لأنّ الدولة لم تعرف أن تضع حدّاً لإجرام الخاطفين الذين لم يتوانوا في بداية الأزمة عن قتل ثلاثة رهائن بوحشيّة، مُستفيدين من بلبلة وضياع وتردّد الجهات الرسميّة اللبنانيّة، وهم يُهدّدون كل يوم بتكرار جريمتهم، وقد يَفعلون بأيّ وقت. وأسفر هذا الأمر عن جعل الأهالي يرون أولادهم مقتولين في أفكارهم القلقة نهاراً وفي كوابيسهم ليلاً، وهم تَحوّلوا نتيجة لذلك إلى أداة طيّعة راضخة للخاطفين الذين يستغلّونهم لرفع مستوى الضغط على الدولة، عبر إجبارهم على إقفال الطرق وقطع أوصال لبنان الرئيسة. وما لا يعرفه الأهالي أنّ رضوخهم لمطالب الخاطفين يؤثّر سلباً عل ملفّ أبنائهم، لأنّه يُحسّن شروط الإرهابيّين على الدولة اللبنانيّة، بحيث تُصبح مسألة تلبيتها أصعب وأصعب.
وتُعاني الجهات الرسميّة أيضاً من مُزايدات مُختلفة يمارسها عدد من السياسيّين والإعلاميّين اللبنانيّين، إنطلاقاً من مصالح شخصيّة، مناطقيّة، حزبيّة، وخصوصاً شعبويّة. ولا ننسى طبعاً الـ”فيتو” الموضوع من قبل جهات سياسية وحزبيّة فاعلة، على عدد من المساجين الذين يُمنع إطلاقهم تحت أيّ حجّة وذريعة لأسباب أمنيّة. أكثر من ذلك، إنّ مُجرّد الموافقة على إطلاق أيّ مسجون في مقابل أيّ عسكري، سيفتح مُستقبلاً شهيّة الإرهابيّين، لإعتماد هذه المُعادلة مراراً وتكراراً، بحيث يُصبح كل عسكري يسير وحده على الطريق مشروع عمليّة خطف مُحتملة بغرض المُبادلة.
وأمام هذه الصعوبات البالغة في ملفّ الرهائن العسكريّين، الأكيد أنّ أسلوب التفاوض المعتمد من قبل الجهات الرسميّة اللبنانية لم يرق حتى تاريخه إلى الحد الأدنى من الجدّية والحزم المطلوبين في مثل هذه الظروف. والبداية قبل أيّ شيء يجب أن تكون في وقف إبتزاز الخاطفين عبر التهديدات المستمرّة لحياة الأسرى، لتبدأ عندها مرحلة التفاوض الهادئة والفعليّة. وهذا الوقف لا يُمكن أن يتمّ إلا بعد إفهام الخاطفين أنّ المسّ بأيّ عسكري لبناني، سيُقابله مسّ فوري بحياة عشرات المحسوبين عليهم، بشكل مُبطّن لا يجعل الجهات الرسميّة مسؤولة أمام المجتمع الدَولي. ويُمكن في هذا السياق، تكرار بعض الإقتراحات المعروضة من قبل مواطنين عاديّين على صفحات مواقع التواصل الإجتماعي، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: إفتعال إشكال في أحد السجون وإغراء مساجين لتنفيذ عمليّات قتل ضد مساجين موالين لتنظيمي “النصرة” و”داعش” في مقابل تخفيف عقوباتهم، أو تدخّل فرق مكافحة الشغب، والتسبّب بتصفية مجموعة من هؤلاء، بحجّة ضبط الوضع. ويُمكن أيضاً تحريك مجموعات مُسلّحة تحت ستار عشيرة هذا المخطوف أو عائلة ذلك، وتسهيل تصفية أيّ مقاتلين مأسورين من المجموعات الإرهابيّة. والأفكار كثيرة ومتعدّدة والمطلوب واحد: الحزم كلّ الحزم في تعامل الدولة مع ملفّ الأسرى، وإلا لا حلّ قريب لهذه المأساة!