أحسن المجلس الدستوري بإصدار قرار يؤكد فيه انتسابه إلى السياسة والسياسيين. كان هذا متوقعاً، فالقضاء في العالم الثالث، وتحديداً في الدول المتخلفة، هو واجهة شكلية للسلطة. وقيل، إن القضاء في الدول الديكتاتورية، هو جنرال يلبس «روباً» أسود، وفي الدول الملكية، هو حاكم، يستبدل الدشداشة بالثوب الأسود، أما في دولة مثل لبنان، حيث الديموقراطية فيه زعبرة طوائفيات ومذهبيات وشركات مالية وعقارية حاكمة، وحيث المحاسبة «تشهير» بالزعران، غير جائز، فلا يمكن أن يكون القضاء، حتى في أعلى رتبه، غير «مجلس ملي» أو «مكتب سياسي» يصدر القرار، مطرزاً بمواد دستورية منتقاة، أو غبَّ الطلب.
وأحسن القضاء المصري بإصدار صك براءة بالرئيس المصري المخلوع حسني مبارك ونجليه ووزير داخليته وستة من مساعديه، من تهمة قتل المتظاهرين في ثورة «25 يناير»، ما يؤكد انتساب القضاء في مصر إلى الثكنة العسكرية التي تحكم البلد، بعد انتخابات رئاسية «شرعية» مبرمة، تم فيها القضاء على «حكم الإخوان» وعلى «ثوار الميدان».
أصدرت جمعية الدفاع عن الحقوق والحريات «عدل» كتيباً عن «أخلاقيات المهن القانونية»، بعد الانتهاء من وضع شرعة لأخلاقيات وسلوكيات القضاء في لبنان، نابعة من القضاء اللبناني، من دون أي تدخل من أي سلطة أخرى، بهدف تأكيد إعلان استقلالية القضاء، من خلال شرعة تكون ملزمة معنوياً. وجاء في نص القاضي طارق زيادة حول علاقة استقلالية القضاء بديموقراطية النظام نصاً وممارسة ما يلي: «في المبدأ… استقلال السلطة القضائية إزاء السلطتين الأخريين التشريعية والتنفيذية غدا طرحاً مسلّما به كعلامة من علامات انتماء المجتمع للديموقراطية، ودولة القانون، غير أن هذا المبدأ تخترقه الممارسة اللبنانية، عبر التسلط السياسي على أجهزة القضاء. فيشير زيادة إلى أن ثغرات عديدة تشوب تطبيق مبدأ الاستقلال، وأبرزها، تكوين مجلس القضاء الأعلى، فهو في غالبيته بالتعيين، من قبل السلطة التنفيذية وكذا الأمر بالنسبة لمكتب مجلس شورى الدولة، وهما الأداتان المخوّلتان ضمانة استقلال القضاء، عدا أن التشكيلات القضائية غير منوطة بهاتين الأداتين المستقلتين عن تدخل السياسة».
السلطة الطائفية لم تنجب حكماً نزيهاً أبداً. هي سلطة فاسدة في الأساس والجوهر والممارسة، فلا يعقل أن تطمئن إلى قيام جهاز قضائي نظيف وإلى إدارة تحترم القوانين. النظافة غير مربحة. إيلاء القضاء لشؤون الناس، خسارة لمبدأ الزبائنية المجزي. السلطة السياسية تريد في القضاء موظفين مطيعين، ولقد تم لها ذلك، بشهادة استطلاع رأي، نشرته «عدل»، مظهراً الصورة المخجلة للجسم القضائي في لبنان.
أولاً: ما رأي القضاة بالقضاة؟
اثنان من أصل عشرة تعجبهم أوضاع القضاء. وأربعة من أصل عشرة أقروا باستقامة القضاء، فيما ستة لم يؤكدوا هذه الاستقامة. وجواباً عن سؤال هل هناك فساد لدى القضاة، كانت المحصلة: اثنان فقط من أصل عشرة قالوا نعم. وتحفظ ثمانية من عشرة قضاة عن الإجابة.
وشهد شاهد من أهله، بصيغة الأكثرية: «ان أحداً (من القضاة) لم ينف واقعة الفساد بين القضاة». أما في الوقائع الخاصة بالرشوة، فإن أربعة قضاة من أصل عشرة لم يتمكنوا من نفي واقعة ارتشاء بعض القضاة.
تعليق: «من قصورهم ونمط عيشهم تعرفونهم».
ثانياً: ما رأي المحامين بالقضاة؟
65 في المئة من المحامين المستطلعين لا يستطيعون تأكيد وجود استقامة في القضاء. 42 في المئة يؤكدون وجود الفساد بين القضاة وحوالي 90 في المئة يميلون إلى الاعتقاد بوجود الفساد. (58 في المئة من المحامين يعرفون قضاة قبلوا رشوة، و16 في المئة يعرفون قضاة طلبوا رشوة).
أما صورة القضاء لدى الرأي العام، فهي كارثية، حيث 64 في المئة من المستطلعين غير متأكدين من استقامة القضاء، و56 في المئة يؤكدون أن هناك فساداً، فيما 8 في المئة من الناس برّأت القضاء من التهمة.
هذه هي الصورة «الزاهية» للقضاء اللبناني. يُستثنى من ذلك قضاة قلة، ثبتوا على يمينهم التي رفعوها، فاعتصموا بالنص، وتحصنوا ضد التدخل، وكانت مسيرتهم عقوبة لهم، براحة ضمير وبأخلاق مكتفية بما تبثه من طمأنينة النفس وتقديس الواجب. هذه القلة المباركة… ملعونة النظام.
لبنان لا يشبه نصوصه. تلك حقيقة ثابتة ومؤكدة. تزخر الخزانة اللبنانية بالنصوص، في صدارتها الدستور. دستور لبنان إذا طبق، صار لبنان دولة. النصوص من الطوائفية، كما هو منصوص في دستور الطائف، صرنا دولة قانون ديموقراطية… هذه النصوص والتشريعات يتيمة لا أب لها.
المجلس الدستوري لم يحم الديموقراطية في لبنان. شبهة ما في حريته. لعلها في أساس تكوينه وفي فلسفة توظيفه، فهو عندما نشأ، لم تكن غايته حماية الدستور والاحتكام إليه بل تطويعه أو إخضاعه للسياسة. سيرته بائسة.
بعيداً عن الحيثيات المتناقضة التي نص عليها قرار المجلس الدستوري، وذلك لنقص حاد في معلوماتي الحقوقية وخبراتي القضائية، نسأل هذا المجلس بالذات: لماذا تجهيل الفاعل؟ قد يبتسم بعض قضاة المجلس لهذا السؤال، واعتبار طرحه «هبلاً» دستورياً. معهم حق. هذا سؤال في السياسة فقط.
من المسؤول عن «الفراغ» المزعوم؟ لقد تخوف «الدستوري» من هذا «الفراغ» فسارع إلى نقد المقدمات التي بنى عليها مطالعته، لينسفها بقرار جاء طبق الأصل لما يريده «حلف التمديد الرباعي». هذا الحلف الرباعي هو المسؤول عن «الفراغ». حتى من تقدم بالطعن مسؤول مع حليفه عن تعطيل انتخابات الرئاسة باستمرار تغيبه. (هذا في الشكل الديموقراطي على الأقل) فكيف يكافأ المسؤولون عن الفراغ بجائزة التمديد، لإتمام ولاية نيابية كاملة.
عندما نزل المصريون ليعترضوا على قرار تبرئة مبارك وأعوانه، غضبوا. حزنوا. تحرقوا. قُمعوا. ضُربوا. اتهموا. ولم يكن أمام «أم الشهيد» إلا ان تصرخ «حسبي الله ونعم الوكيل» تعبيراً عن الخيبة واليأس.
نحن، في لبنان، ليس عندنا إلا: «حسبي الله»… هذا زمن الخيبات والانكسارات ومكافأة المرتكبين. وإعلاء شأن الزور. وجه شبه بين الحكمين، المصري و«الدستوري». الأول برّأ مبارك ولم يعده إلى السلطة. «الثاني» برّأ المسؤولين وثبّتهم في مقاعدهم النيابية. معيب حقاً. قليل من الحياء!
لبنان ديموقراطي؟؟ ليس الآن ولا غداً ولا…