مبارك بريء: رسالة سياسية وخيبة أمل في الشارع

دخلت مصر مرحلة جديدة بعد الحكم الذي أصدرته محكمة جنايات القاهرة، أمس الأول، ببراءة الرئيس المخلوع حسني مبارك ومعاونيه من تهمة القتل بحق «ثوار يناير». صحيح ان الحكم لم يكن مفاجئاً، الا انه كان صادماً بالنسبة الى كثيرين، وهو ما بدا بوضوح في انفجار حركة الاحتجاج في الشوارع، وتصاعدها امس الاحد.
وجاء الحكم بمثابة تأكيد لسلسلة من القرارات السياسية والخطوات القضائية منذ نحو عام، والتي أوحت بقوة الى الرغبة في طي ملف محاكمة مبارك، في الوقت الذي كانت العلاقات بين القاهرة والرياض تشهد تطورا كبيرا على الصعيدين السياسي والاقتصادي. ومعلوم ان الرياض كانت الدولة الوحيدة التي انتقدت صراحة الاطاحة بنظام مبارك في العام 2011، وحمّلت وقتها واشنطن مسؤولية مرحلة الاضطرابات التي دخلتها مصر بعد تخليها عن دعم مبارك.
وانتقلت حركة الاحتجاج التي بدأت أمس الأول السبت، من الميادين إلى الجامعات، حيث شهدت جامعات القاهرة وعين شمس وحلوان والأزهر، تظاهرات طلابية منددة بالحكم ومطالبة بالقصاص، امتدت وصولاً إلى جامعات الاسكندرية.
مقدمات الحكم كانت واضحة منذ أكثر من عام. فمن أول القرارات التي اتخذت بعد الثالث من تموز العام 2013، كان الإفراج عن مبارك في الشهر نفسه، تحت ذريعة انقضاء مدة الحبس الاحتياطي الممكنة قانوناً، برغم أن سجناء آخرين تمتد مدد حبسهم احتياطياً أو بقرارت اعتقال إداري لفترات غير محدودة.
وبدا واضحاً أيضاً، خصوصاً في الأشهر الأخيرة، الهجوم المنظم من الإعلام على كل ما يمت لـ»ثورة يناير» بصلة، وعادت رموز من نظام مبارك إلى الظهور في المشهد الإعلامي والسياسي. كما بدأت الملاحقات الأمنية لـ»الثوار»، خاصة بعد تطبيق قانون التظاهر، وألقي بأعداد منهم في السجن، وصدرت في حقهم أحكام مشددة في محاكمات سريعة.
وقد كان إخلاء سبيل أحمد عز، رجل الأعمال المقرب من نظام مبارك، وتخفيض الغرامة المقررة عليه بسبب احتكاره حديد التسليح من مئة مليون جنيه إلى عشرة ملايين جنيه، وورود أنباء عن لقاءات جمعته بأعضاء «الحزب الوطني» المنحل لترتيب أعمال في الانتخابات التشريعية المقبلة، إشارة مهمة على أن مصير مبارك لن يكون أسوأ، على الأقل من رجاله. كما كانت الاستعدادات الأمنية المبالغ فيها على أثر دعوة «الجبهة السلفية» لما سمي بـ»انتفاضة الشباب المسلم»، مؤشراً مهماً لما تستعد له أجهزة الأمن في اليوم التالي عند تبرئة مبارك.
ويعتبر الحكم نهائياً، ولكنه «غير بات»، أي أنه لا تزال هناك درجة تقاضي أخرى. وهو ما بدأت به النيابة العامة بدراسة الحكم قانوناً للطعن فيه. وبموجب الحكم، تسقط عن مبارك وأعوانه تهمة قتل المتظاهرين في «ثورة 25 يناير»، وتسقط عن مبارك ورجل الأعمال حسين سالم تهمة إهدار المال والتربح في قضية تصدير الغاز لإسرائيل.
وبالتالي، يصبح مبارك مداناً في قضية واحدة، والمعروفة إعلامياً بقضية الفساد في قصور الرئاسة، والتي حكم عليه فيها بالحبس ثلاث سنوات، وهي الفترة التي قاربت على الانتهاء إذا ما خصمت منها فترة الحبس الاحتياطي التي قضاها على ذمة مجمل القضايا، وبالتالي يرجح أن يطلق سراحه بعد فترة بسيطة قد تكون أسابيع أو أشهر، وفق المقاصة التي ستجرى لمدة حبسه، بحسب ما قاله المرشح الرئاسي السابق المحامي خالد علي في حديثه إلى «السفير».
وأضاف علي أنه «بالنسبة إلى جمال وعلاء مبارك، فسيستمر حبسهما على ذمة قضايا أخرى متهمين فيها. أما حبيب العادلي فما زال متهماً في قضية اللوحات المعدنية، ومساعدوه قد أخلي سبيلهم بالفعل».
ورداً على ما يتردد أن المحكمة حكمت وفقاً لأوراق الدعوة والأدلة المتاحة لها بحسب القانون، قال علي إن «القاضي أهدر القانون في جزئيات مهمة، منها مثلاً انقضاء دعوة الرشوة بالتقادم، وهو ما استند فيه إلى القانون الذي تسقط فيه الدعوة بالتقادم بعد عشر سنوات من مرور الواقعة، ولكن القانون يستثني من ذلك الرشوة بالنسبة إلى الموظف العام، ويجعل التقادم يحتسب من تاريخ ترك الموظف لوظيفته العامة وليس من تاريخ الواقعة، وبذلك لا تكون دعوة الرشوة متقادمة».
وحول ما يثار في شأن درجة التقاضي التالية وتدارك ما فات العدالة في سابقتها، أوضح خالد علي لـ»السفير» أنه «لا يمكن الاعتماد على ذلك، لأن ما جرى في المحاكمة والأداء التلفزيوني للقاضي، والذي انتقده فيه حتى بعض القضاة، والتمهيد للرأي العام بإذاعة كلمات المتهمين على الهواء لاستعطاف الرأي العام وغيرها من الأمور، تؤكد أن الدرجة التالية من التقاضي لن تكون نتيجتها مختلفة عن الأولى. والتغيير لن ينتج إلا عبر الحراك في الشارع».
خالد علي الذي سارع بالنزول إلى ميدان التحرير مع تظاهرات أهالي الشهداء والمصابين، لا يرى المعنى القانوني للحكم فحسب، بل يتحدث عن بعده السياسي قائلاً إن «الحكم رسالة سياسية، مفادها أن (الرئيس المصري عبد الفتاح) السيسي هو نفسه مبارك. ويوماً بعد يوم تتضح الصورة أكثر. اختياره فايزة أبو النجا مستشارة للأمن القومي. واختياره كمال الجنزوري للتوفيق بين قوائم القوى السياسية للانتخابات البرلمانية ليخرج برلمان يعبر عن السلطة. انحيازه دائماً للإعلاميين المحسوبين على نظام مبارك والمدافعين عنه الذين يهاجمون دائماً ثورة يناير، وأخيراً الحكم ببراءة مبارك. كل تلك الأمور تؤكد أن نظام مبارك هو الذي يحكم وإن بقيادة السيسي».
ويرى علي أن الأمور أصبحت قابلة للتحول سريعاً، معتبراً أن «نتيجة ما يقوم به النظام ستكون عكس ما يريده تماماً. هم يتصورون أن الثورة هزمت. ولكن بمجرد صدور حكم البراءة لمبارك اندفع آلاف من الشباب إلى الميدان ليؤكدوا استمرار الثورة، والفاعليات ستستمر. خروج الشباب لم يتوقعه الأمن واستغرق وقتاً في مواجهته، وأعتقد أن خلال الفترة المقبلة، سيتصاعد الحراك بقوة في الشارع».
في المقابل، قال أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في القاهرة أشرف الشريف إنه «بعد ثلاث سنوات من عدم الاستقرار والاضطرابات، أصبحت الناس مرهقة ولم تعد القضايا السياسية تشغلها، ما يهمهم هو الاستقرار الذي يمكن أن يحققه النظام الحالي».
وامتنع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، عن التعقيب على الأحكام القضائية الصادرة بحق مبارك لأسباب دستورية، كما وجه رئيس وزرائه لاتخاذ الإجراءات اللازمة لتعويض أسر «شهداء ومصابي الثورة».
وأوضح موقع «أخبار مصر» أن السيسي تابع «الأحكام الصادرة بشأن القضايا المرفوعة على عدد من رموز نظام الحكم السابق وكبار المسؤولين»، وأشار إلى أن «طبيعة الأحكام القضائية الصادرة، والتي لا يجوز التعقيب عليها، وذلك إعمالاً لنصوص الدستور المصري الذي كفل للقضاء المصري استقلالية تامة، وأكد على ضرورة إعمال مبدأ الفصل بين السلطات، وتأكيداً للثقة الكاملة في عدالة قضاة مصر ونزاهتهم وحيدتهم وكفاءتهم المهنية».
وأكد السيسي أن «مصر الجديدة، التي تمخضت عن ثورتي 25 يناير و30 يونيو، ماضية في طريقها نحو تأسيس دولة ديموقراطية حديثة قائمة على العدل والحرية والمساواة ومحاربة الفساد، تتطلع نحو المستقبل، ولا يمكن أن تعود أبداً إلى الوراء».
وبرغم التمهيد، فإن حكم البراءة بصيغته الحاسمة شكّل صدمة لأهالي الشهداء والمصابين والقوى الثورية، والذين توجهوا إلى ميدان التحرير الذي شهد سقوط شهداء «الثورة»، ووجدوه مغلقاً في وجوههم بالقوات الامنية التي احتشدت لمواجة انتفاضة لم تقع.
على أطراف ميدان التحرير إلى جوار المتحف المصري، تظاهر الآلاف من المحتجين في ميدان عبد المنعم رياض. وبينما ترددت الهتافات المنددة بالحكم والمطالبة بالقصاص، عاد إلى سماء التحرير هتاف الثورة الأشهر «الشعب يريد إسقاط النظام»، في إشارة واضحة من المتظاهرين إلى استمرار «ثورة يناير» بالأهداف نفسها، أو ربما قصد بذلك الهتاف أن نظام مبارك لم يسقط أصلاً.
التظاهرة التي بدأت أمس الأول، واستمرت لساعات عدة متزامنة مع تظاهرات أخرى في عدد من المحافظات والمدن، بدت سلمية تماماً، كما لم تشهد أي علامات أو رموز لقوى سياسية من التي كانت مشاركة بالفعل في التظاهرة.
برغم ذلك، قامت قوات الأمن بمهاجمة المسيرة من أعلى «كوبري 6 أكتوبر» المشرف على الميدان، واقتحمت مدرعات الأمن التظاهرة لتفريقها باستخدام الغاز المسيل للدموع والخرطوش والذخيرة الحية، ما أسفر عن سقوط شهيدين. كما ألقت قوات الأمن القبض على أعداد كبيرة أطلق سراح غالبيتهم أمس.
ردود أفعال أخرى على الحكم لم تكن على الدرجة نفسها من السلمية، فقد هاجم مجهولون نادي القضاة في الإسكندرية بزجاجات المولوتوف مساء أمس الأول، وتكرر الهجوم على محكمة الدخيلة في الإسكندرية صباح أمس.
الإشارات التي تلاحقت عقب الثالث من تموز، أفضت إلى واقع لا ينقصه الوضوح. والحجج التي تساق إلى الحكم، عن عدم كفاية الأدلة وطمسها من قبل أجهزة الدولة والتزام المحكمة بنص القانون، لا تقنع من رأوا أحكاماً مشددة على ناشطين في وقفات سلمية لم تعطل حتى المرور، وأحكاماً بإعدام المئات في جسلة واحدة لم تستغرق ساعات، ورفض قضاة لطلبات الدفاع.
وهذا ما اعتبر من قبل أهالي الشهداء والمصابين محاولة من قبل سلطة «الثالث من يوليو» للقضاء على ما تبقى من «ثورة يناير». ولكن ردود الأفعال التي انطلقت فور إصدار الحكم واستمرت بعده، توضح أن ما حفرته «الثورة» قبل أربع سنوات، يصعب محوه بحكم المحكمة.