لا ينوي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إعادة النظر بجنوحه الإستراتيجي نحو الشرق. فـ»العثمنة» ليست نزوة عابرة جرّبها مع منظّر السياسة الخارجية التركية ووزيرها لسنوات طوال أحمد داود أوغلو. بل هي خيارٌ مدروسٌ ساهم إيصادُ أبواب الاتحاد الأوروبي أمام أنقرة في بلورته، بقدر ما دفعت نحوه ايديولوجيا قدّمت نفسها كموائمٍ بين الحداثة والمرجعية الإسلامية.
يتوقف أردوغان قليلاً أمام مشهد اليوم، وليس بعيداً عنه محيطٌ جنوبيٌ يغرق فيه عربُه بدماء طوائفهم. قبل ثلاثة أعوام ونيّف، أسدل هذا المشهد الستار على نظرية «تصفير المشاكل»، التي أسّس عليها الرجل وفريقه نظرتهم إلى الخارج، حين قرروا ارتداء ثوب السلطان.
يقرّر الرجل التقاط أنفاسه والبحث عن طريق موازٍ يسمح له بتحقيق بعض الإنجازات، في ظل العجز عن ترجمة تطلعاته الكبرى خلف الحدود. يستذكر الاقتصاد الذي أبقى على حزبه في أعلى هرم السلطة التركية بلا منازع، منذ العام 2002. حين أمسك «العدالة والتنمية» بالحكم في تلك السنة، كانت الدولة التركية تخصص 90 في المئة من عائداتها الضريبية لخدمة دينها العام. قلَبَ حزبُ أردوغان أوضاع الاقتصاد رأساً على عقب خلال ثماني سنوات، وأوصل حجم النمو الاقتصادي في العام 2010، إلى أكثر من 9 في المئة. لكن الذروة تلك كانت بداية مسيرة انحدار في نسب النمو، توازياً مع تضخم التحديات السياسية، داخلياً وخارجياً، والتخبط في معالجتها.
الاقتصاد إذاً، عنوان النجاح الأول وركيزة كل ما يليه من إنجازات محتملة. يدرك الرئيس الكاريزمي ذلك، فيعّدل وجهته قليلاً. يضع رغبته المضمرة بتجاوز الرمزية التاريخية للمؤسس أتاتورك جانباً إلى حين، ويُقرر الاستثمار في السوق المربحة التي أثبتت جدواها قبلاً.. بانتظار كلمة السر.
على يمين أردوغان، يقف زائر أنقرة، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مبتسماً. تلك عادته عند المحطات وبين كل واحدة منها. يتعامل بهدوء مع الأحداث، بخلاف نظيره التركي الذي لا يترك حماسة أو انفعالاً إلا ويوظفهما في خدمة قضاياه.
في جعبة بوتين سجلٌ اقتصادي حافلٌ بدوره، سمح له بتثبيت نفسه والمؤسسة الحاكمة في الكرملين. لكنه، في هذا الإطار، يواجه صعوبات كبيرة منذ سنوات أيضاً. الاقتصاد الروسي الذي اعتمد بقدر كبير على صادرات الموارد الطبيعية من نفط وغاز، بدأ يتعافى من هبوطه الحاد في تسعينيات القرن الماضي، قبل عام من تبوء بوتين السلطة في العام 2000. ثم، وعلى مدى ثمانية أعوام، فاق معدّل النمو 7 في المئة سنوياً.
النتائج الاقتصادية في روسيا – بوتين كانت شبيهة بتلك الخاصة بتركيا – أردوغان، مع فارق أن الاقتصاد الروسي عانى (وما زال) من حجم فساد هائل، جعل «منظمة الشفافية الدولية» في العام 2007، تصنف روسيا في المرتبة الثانية في لائحة البلاد الأغنى والأكثر فساداً في الوقت عينه (الأولى كانت غينيا الاستوائية، البلد الصغير الغني بالنفط في غرب أفريقيا).
يقف بوتين قرب أردوغان مبتسماً، وفي ذهنه أن رافعته الاقتصادية في السلطة زمن العز، مهزوزة اليوم. فالنمو الاقتصادي بلغ 0.8 في المئة في النصف الأول من العام 2014 بحسب تقارير البنك الدولي، وهي نسبة تكاد تماثل ما سبقها بعام. ويزيد الطين بلة اندفاع أوروبا والولايات المتحدة بشراسة إلى إغلاق الأبواب في وجهه، الواحد منها تلو الآخر، على خلفية الموقف من أوكرانيا، المصنفة في قاموس موسكو خطاً أحمر، إن تم تجاوزه، أصبح أمنها القومي مخترقاً.
بوتين عينه على الاقتصاد الذي سمح له بتوطيد سلطته، ولموسكو بالسباحة في المحيط الدولي عكس تيار القطب الأوحد. القيصر، تماماً كالسلطان، يحتاج إلى منفذٍ يفتح له بعض الأفق، مع فارق أنه يخوض جولته الاقتصادية هذه بمنطق المضطر، وبسياسة أقرب إلى الدفاع منها إلى الهجوم، مع ضيق الخيارات الذي تسببت به أزمة كييف وتداعياتها. فيما نظيره التركي لا يقيس خطوته الاقتصادية وفق أحكام الضرورة، بل بالحاجة إلى وقت مستقطع من الأزمات التي تلاحقه، وإلى إنجازٍ ما يعوّض الإخفاق النسبي في السنوات السالفة.
غير أن هذا الاختلاف في الحاجة ومداها، لا ينفي تقاطعاً أساسياً: استدارة الرئيس الروسي نحو الاقتصاد، تماماً كحال مضيفه، تنطوي على انتطار كلمة سرٍ أقرب إلى الجغرافيا – السياسية منها إلى أي شيء آخر.
كلمة السر بالنسبة لأردوغان، تنطوي على دعوة أنقرة صراحة للعب دور رئيسي في إيجاد مخرج للأزمة السورية. ينتظر الرئيس التركي تبلور المشهد في المحافل الدولية بعد «قمة موسكو» المرتقبة حول سوريا، من أجل الضغط على رعاة جولة المفاوضات الجديدة. لا حل من دون كل المفاتيح، وأنقرة تملك مفتاح حل رئيسي، يريد أن يقول.
في ذهن بوتين قراءة مماثلة لأزمته، ولو أنه يطمح، كرئيس قوة عظمى، إلى أبعد ما يريده اللاعب الإقليمي. كلمة السر كما يريدها الرئيس الروسي، إقرارٌ بالمصالح الروسية في فلك الاتحاد السوفياتي السابق أو معظمه، وتسليمٌ لموسكو بحق وضع النقاط على الحروف في جوارها القلق.
يتفق الرئيسان على رفع ميزان التبادل التجاري بمقدار ثلاثة أضعاف خلال ست سنوات، من 33 مليار دولارٍ اليوم، إلى 100 مليار في العام 2020. يبتسم كلٌ منهما لتوطيد علاقة يُراد منها دفع الغرب إلى إعادة حساباته. بوتين يضغط بالغاز على أوروبا ويجهد للتنفس بعيداً عن العقوبات، فيما يجري أردوغان حساب أرباحه من الصفقة في الداخل والخارج. ويجول الرجلان في فضاء الأرقام وأبعادها في انتظار أن تستقر الأمور، كلٌ في محيطه، على ما يعطيه حجماً يرضيه.. أو يؤكد انكفاءه.