النشرة
من 124 دولاراً أميركياً للبرميل الواحد بالأمس القريب، إنخفضت أسعار مُشتقّات النفط الخام إلى نحو 70 دولاراً لبرميل النفط الخام، أيّ إلى أدنى مستوى منذ أيّار 2010، الأمر الذي ألحق أضراراً مُتفاوتة الحجم في الدول المُصدّرة للنفط، وأطلق العنان لنظريّات “المؤامرة”، إلى درجة دفعت بعض المحلّلين إلى الحديث عن “هجوم إقتصادي” تشنّه كل من واشنطن والرياض على كل من موسكو وطهران، بهدف ضربهما إقتصادياً تمهيداً لإخضاعهما سياسياً. فأين الحقيقة من كل ذلك؟
بالنسبة إلى الإقتصاديّين الذين يَفصلون السياسة عن الإقتصاد، إنّ أسعار النفط مرتبطة بمعادلة العرض والطلب البسيطة والواضحة، بحيث أنّ الأسعار تنخفض طبيعياً كلّما زاد العرض وقلّ الطلب. وهم يتحدّثون عن تراجع الطلب على النفط في أسواق تتسم عادة بارتفاع نسبة إستهلاكها، مثل الصين والولايات المتحدة الأميركية واليابان وأوروبا عموماً وألمانيا خصوصاً وغيرها، في مقابل إزدياد العروض في الأسواق من دول غير منضويّة بمنظّمة “أوبك”(1). وأدّى هذا الأمر بحسب الخبراء الإقتصاديّين إلى إختلال كبير في توازن عمليّات الإنتاج والتصدير، وإلى فوضى كبيرة نتيجة التنافس المتصاعد. ويلفت الإقتصاديّون أيضاً إلى أنّ الولايات المتحدة الأميركية واكبت تعافي إقتصادها في السنوات القليلة الماضية عبر زيادة حجم إنتاجها النفطي منذ العام 2008 حتى اليوم بنسبة 70 %، بعد أن كانت في الماضي تعتبر مخزونها إحتياطاً إستراتيجياً.
لكن المحلّلين السياسيّين الذين يُجارون الخبراء الإقتصاديّين في تعداد أسباب تراجع النفط، يضيفون إلى ما سبق، عامل القرار السياسي. وهم يَعتبرون أنّ رفض مُنظمّة “أوبك” خفض حجم إنتاجها الحالي(2) هو خير دليل على ذلك، لأنّ أبسط طريقة لإعادة رفع الأسعار هي في خفض حجم الإنتاج لمواكبة التراجع في الطلب نتيجة الإنكماش الإقتصادي العالمي. وهذه حجّة منطقيّة جداً!
ومن الضروري الإشارة إلى أنّ الإقتصاد الإيراني يُعوّل بشكل كبير على صادرات المشتقّات النفطية والغاز، حيث تُنتج إيران نحو 4 ملايين برميل يومياً، يتمّ تصدير أكثر من نصفها إلى الخارج، وهي تصدّر الغاز عبر خطوط أنابيب تمرّ في تركيا وأرمينيا. وبالنسبة إلى روسيا فهي ثاني أكبر دولة منتجة ومصدّرة للنفط في العالم بعد المملكة العربيّة السعوديّة. ولمّا كان عدد كبير من دول العالم المُصدّرة للنفط، ومنها إيران وروسيا بطبيعة الحال، قد بنى ميزانيّاته السنويّة إنطلاقاً من أسعار نفط تزيد على مئة دولار أميركي للبرميل الواحد، فإنّ التراجع الكبير الذي لحق بالأسعار، جعل هذه الدول ترزح تحت عجز هائل في الميزانيّة. وإذا كانت الدول الغنيّة، مثل السعوديّة قادرة على تحمّل الخسائر بفائض أموالها النقديّة(3)، فإنّ دولاً مثل إيران وخصوصاً مثل روسيا هي عاجزة عن ذلك. وإذا كانت إيران تتكتّم عن الخسائر اللاحقة بها، فإنّ المعلومات الواردة من روسيا تعطي فكرة عمّا يحصل. وفي هذا السياق، يمكن ذكر الإنهيار المتواصل لسعر صرف العملة الروسية، حيث خسر “الروبل” نحو 40 % من قيمته منذ مطلع العام. كما أنّ خسائر روسيا الإتحادية المالية هي بعشرات مليارات الدولارات نتيجة إنخفاض هامش أرباحها من عمليّات تصدير النفط، وهي قد تتجاوز المئة مليار دولار في سنة واحدة، في حال بقيت أسعار النفط متدنية كما هي عليه اليوم، بحسب أكثر من خبير إقتصادي. وبالتالي، إنّ أهداف كل من الرياض وواشنطن، من الإبقاء على أسعار منخفضة للمشتقات النفطيّة ولكل المواد المُصنّفة بترو كيماويّة، هي إقتصاديّة-سياسيّة، لجهة منع الإقتصاد الإيراني والروسي من التعافي ومحاولة التسبب بأزمات مالية لهما، وفرض نوع من الحصار على أعمال التوسّع والتصدير لكل منهما في قطاع المُشتقّات النفطية، وطبعاً إستغلال الضغط الإقتصادي-المالي للحصول على تنازلات سياسيّة في نهاية المطاف.
في الختام، صحيح أنّ أرباح الدول الخليجيّة المُصدّرة للنفط، وفي طليعتها المملكة العربيّة السعوديّة(4)، تراجعت بشكل كبير في الأشهر الستة الماضية نتيجة الإنخفاض المُستمرّ لأسعار النفط، لكن هذه “الخسائر” المالية هي بمثابة “ضريبة حرب إقتصادية” يتمّ دفعها، بدلاً من تمويل حرب عسكريّة فعليّة. وصحيح أنّ مشاريع واشنطن بتفعيل عمليّات إستخراج الغاز الصخري من كل من “أوكلاهوما” و”لويزيانا” و”نورث داكوتا” و”تكساس”، ستُجمّد مرحلياً، نتيجة كلفة الإستخراج العالية في مقابل إنخفاض سعر المبيع، لكن الأصحّ أنّ أميركا التي هي من أكبر المُستهلكين للنفط في العالم هي بموقع الرابح نتيجة لذلك، وصناعاتها المختلفة ستتأثّر إيجاباً. والأهمّ بالنسبة إليها، أنّ طهران وموسكو ستعانيان من مشاكل إقتصادية كبيرة، قد تجبرهما على تليين مواقفهما من ملفّات عالميّة عالقة، مثل حرب سوريا، وأزمة العراق، والملفّ النووي، وأزمة أوكرانيا…
(1) الدول المنتجة للنفط من خارج منظّمة “أوبك”، تُقسم إلى قسمين: (منتجة ومستوردة في الوقت عينه) مثل الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا والصين والهند والبرازيل، و(منتجة ومصدّرة) مثل روسيا والنروج وكندا والمكسيك وكازخستان وأذربيجان وعمان، إلخ.
(2) تضم منظّمة “أوبك” 12 دولة مصدّرة للنفط هي: السعودية، الإمارات، قطر، الكويت، ليبيا، العراق، الجزائر، إيران، فنزويلا، الإكوادور، نيجيريا، وأنغولا، وهي تُنتج مجتمعة نحو 30 مليون برميل من النفط الخام يومياً، الجزء الأكبر منها يعود إلى السعودية.
(3) تُقدّر بما قيمته نحو 741 مليار دولار أميركي، بحسب تقديرات مصادر إقتصادية غربيّة مُستقلّة، الأمر الذي يُخوّلها سد عجز أيّ ميزانية لسنوات طويلة.
(4) تنتج نحو 10 ملايين برميل في اليوم الواحد، وهي الأولى بين مختلف دول العالم على صعيد حجم الإنتاج، علماً أنّ الإستهلاك العالمي للنفط يبلغ حالياً نحو 85 مليون برميل في اليوم.