قبل أيام، أقدمت الجماعات الإرهابية المسلحة على إعدام العسكري الشهيد علي البزال بدمٍ بارد، غير آبهةٍ بكلّ التحذيرات التي كانت قد وصلتها من عواقب خطوةٍ من هذا النوع، حتى أنها أرفقت عمليتها الوحشية بتهديداتٍ جديدةٍ بقتل جميع العسكريين المخطوفين لديها.
سريعًا، ارتفعت أصوات في الداخل اللبناني مطالبة بردّ “مؤلم” و”موجع” عبر المباشرة بتنفيذ أحكام “الإعدام” بحق عددٍ من الإرهابيين الموقوفين في السجون اللبنانية، وفق قاعدة “النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ”. ولكن سريعًا أيضًا، أتى الردّ من قبل كثيرين باعتبار أنّ “الدولة ليست عصابة” وبالتالي فإنّ عليها التصرّف بـ”منطق الدولة لا العصابة”.
ولكن، وبعيدًا عن فوائد مثل هذه الخطوة الانتقامية أو تداعياتها السلبية على مصير المخطوفين وعائلاتهم، لا بدّ من طرح سؤالٍ كبيرٍ، ألا وهو، عن أيّ “دولة” وأيّ “منطق” نتحدّث، وهل نحن فعلا في “كنف دولة”؟
دولة “القانون والمؤسسات”؟!
“دولة القانون والمؤسسات”. هكذا، يحلو لبعض أنصار “منطق الدولة” أن يصفوا “دولتنا”. هو تعبيرٌ تصدح به المنابر، ويُستخدَم بكثرة من قبل المنظّرين والسياسيين، وكذلك القانونيين والحقوقيين. إلا أنّ “دولة القانون والمؤسسات” هذه باتت، برأي كثيرين، ترمز إلى كلّ شيء باستثناء “القانون والمؤسسات”.
ومن “المؤسسات” البداية، “المؤسسات” الشاغرة في الأعمّ المطلق، والتي، إن وُجِدت، تبقى عاطلة عن العمل. ولعلّ الدليل “الفاقع” على ذلك يتمثل بكرسي الرئاسة الفارغ والشاغر منذ ما يقارب السبعة أشهر، وتحديدًا منذ الخامس والعشرين من أيار، بل إنّ هناك من “يبشّر” اللبنانيين بأنه سيبقى “شاغرًا” لاشهرٍ طويلة قادمة، طالما أنّ “التوافق” على هوية شخصٍ يملأه بات من “سابع المستحيلات”، وطالما أنّ دستور “دولة القانون والمؤسسات” نفسها لا يلحظ مواد حاسمة على هذا الصعيد، وطالما أنّ هذا الدستور أصبح بمنظور أصحاب “منطق الدولة” أشبه بـ”الكتاب المقدّس” الذي يُمنَع المسّ به، تحت طائلة الاتهام بـ”الخيانة العُظمى”.
ولا يقتصر “الشغور” على الرئاسة، فهو حاضرٌ شكلاً ومضمونًا في معظم المؤسسات، حتى تلك التي يتباهى أصحاب “منطق الدولة” نفسه فيها بأنهم “جنّبوا” البلاد من “أخطاره”، يوم أقرّوا قانون التمديد للمجلس النيابي لمرّتين متتاليتين، دون أيّ حسيبٍ أو رقيب. وقد وصلت “عدوى” هذا “الشغور” إلى أعلى المؤسسات الدستورية قيمة، المجلس الدستوري، الذي “عجز” عن الانعقاد عند التمديد الأول، و”غطّى” التمديد الثاني في سابقةٍ دستوريةٍ لا يزال الكثير من القانونيين غير قادرين على “استيعابها”.
فوضى محسوبيات!
أما القانون في دولة “القانون والمؤسسات”، فحدّث ولا حَرَج. لا يقتصر الأمر على كونه خاضعًا للمحسوبيات هنا وهناك، ولا على تداخله مع مفهوم “الغطاء السياسي”، ولا حتى على السجون اللبنانية التي تتحوّل لما يشبه “فندق خمس نجوم” لبعض الموقوفين الذين يتحكمون بها كيفما يشاءون، بل يصل لحدّ اعتباره “وجهة نظر” من قبل أصحاب “منطق الدولة” أنفسهم.
وفي “دولة القانون” هذه، لا يتردّد السياسيون في الوقوف بوجه الأجهزة الأمنية والدفاع عن الإرهابيين، في محاولةٍ لحصد النقاط داخل الطائفة، وما قصة الفار من وجه العدالة شادي المولوي سوى النموذج الأكثر وضوحًا على هذا الصعيد، هو الذي حوّله سياسيو مدينة طرابلس كلّهم بلا استثناء إلى “بطل”، وضغطوا على القضاء لإطلاقه، فأقلّه وزير بسيارته، واستقبله رئيس حكومة سابق في دارته استقبال “الفاتحين”.
وفي “دولة القانون” نفسها، يتوارى “الأبطال” دائمًا عن الأنظار، من شادي المولوي الذي أدار معركة طرابلس و”اختفى” في ليلةٍ لا ضوء قمر فيها، ومثله سابقًا شاكر العبسي وأحمد الأسير وفضل شاكر واللائحة تطول وتكاد لا تنتهي، بل إنّ “المفارقة” ما يُقال عن “لجوئهم” إلى مخيّماتٍ هنا وهناك، في ما يشبه الإقرار بوجود أماكن خارجة عن سيطرة “دولة القانون” التي يتباهون بها.
خطوط حمراء وفيتوات..
وبالعودة إلى صلب الموضوع، قضية العسكريين الموقوفين، تزداد الشكوك وعلامات الاستفهام أكثر وأكثر حول مكانة هذه “الدولة” والدور الحقيقي الذي لعبته منذ لحظة اختطاف “حماتها” بُعيد معركة عرسال الشهيرة وحتى اليوم.
بادئ ذي بدء، يُحكى كثيرًا عن “القرار المشبوه” الذي سمح بإنهاء المعركة، فيما مصير عددٍ من العسكريين مجهول. فأيّ “دولةٍ” تسدل الستارة على معركةٍ مصيرية ووجودية سامحة للإرهابيين بالانسحاب، ومعهم “كنزٌ ثمين” على غرار العسكريين؟ وأيّ “دولة” هي تلك التي لا تضرب بيدٍ من حديدٍ في ذات اللحظة لاسترجاع عسكرييها بالقوة مهما كلّفها الأمر بدلاً من تحويلهم لمادة ابتزاز واستغلال كما يحصل اليوم؟
وعلى الخط نفسه، يُحكى أكثر عن “سكوت” الحكومة اللبنانية لأشهرٍ على جريمة الخطف، بل إنها لم تحرّك ساكنًا قبل أن تصلها الصور المروّعة عن جريمة إعدام أحد العسكريين، ما دفعها لـ”استجداء” الوساطات من هنا وهناك، حتى أنّها وجدت صعوبة فائقة في اتخاذ قرار “التفاوض” الذي خضع لـ”خطوط حمراء” من هنا و”فيتوات” من هناك.
طبّاخون وأبطال..
ولم تتحسّن الأحوال أبدًا عندما سلّمت بـ”التفاوض”، الذي تأرجح بين كونه مباشرًا تارة وغير مباشر تارة أخرى، فإذا بالساحة تصبح مفتوحة أمام “الطبّاخين” من كلّ حدبٍ وصوب، وكأنّ كلاً منهم يسعى ليكون “بطلاً” على حساب قضية إنسانية وخطيرة بهذا الحجم، بل إنّ هؤلاء “الطباخين” باتوا يتنافسون مع بعضهم البعض، بدل أن يتعاونوا للوصول إلى “الخاتمة السعيدة”. هكذا، كان المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم يباشر العمل على خط هذه القضية، بعد نجاحه في قضية مخطوفي أعزاز وراهبات معلولا، وبالموازاة كانت خطوطٌ بالجملة تنشط من وزير الصحة وائل أبو فاعور إلى وزير العدل أشرف ريفي، مرورًا بالمدعو “أبو طاقية” (مصطفى الحجيري)، الذي قيل أنّ الدولة اللبنانية كلّفته رسميًا بالتفاوض، رغم أنه مطلوبٌ لقضائها بتهمة الإرهاب، وصولاً إلى هيئة العلماء المسلمين التي لا يزال كثيرون يطرحون أسئلة بالجملة حول حقيقة الدور الذي تلعبه.
ولعلّ القشة التي قصمت ظهر البعير لم تكن سوى “مفاخرة” الدولة بما أسمته “أوراق القوة” التي كسبتها يوم حصلت على “صيد ثمين”، فإذا بها “تُفقِره” من كلّ “الأثمان”، وكأنّها لا تعرف ولا تدرك أنّ المبدأ الأساسي لنجاح أيّ مفاوضات يكمن في “السرية”، وهي السرية التي أدّت لنجاح كلّ صفقات التبادل التي حصلت سابقًا سواء في الصراع مع العدو الإسرائيلي أو الجماعات التكفيرية في أكثر من بقعةٍ في العالم، وما صفقة التبادل التي حصلت مؤخرًا بين “حزب الله” و”الجيش السوري الحر” سوى الدليل على ذلك، علمًا أنّ العملية التي قام بها الحزب والتي أسفرت عن اطلاق عنصرين من “الجيش الحر” بقيت طيّ الكتمان ولم تخرج للعَلَن إلا مع انتهاء كلّ فصول القضية.
دولة أم عصابة؟!
إزاء كلّ ما تقدّم، لا شكّ أن “منطق الدولة” الذي يتسلّح به رافضو “الإعدام” يصبح مشروع مساءلة بالعمق، مساءلة تشمل الأساس والبنية والهيكلية، مساءلة لا تقف عند حدود الشعارات بل تنطلق من الممارسات العملية على أرض الواقع..
نعم، شتّان ما بين “الدولة” و”العصابة”، ولكنّ السؤال الكبير والمفتوح يبقى: في أيّهما نعيش عمليًا؟!
خاص النشرة