ها هو ما يُسمّى بـ”المجتمع المدني“، بنسخته اللبنانية “الفريدة”، يضرب من جديد..
بعد “إنجازاته” التي بقيت دون مستوى “الاستحقاقات” و”التحدّيات” التي واجهته من فراغ الجمهورية إلى التمديد القاهر والقسري، تحرّك المجتمع المدني أخيرًا، منطلقًا من الهجوم الإرهابي الوحشي على صحيفة “شارلي إيبدو” الفرنسية الساخرة، ليعلن رفضه لـ”الإرهاب”.
وللمفارقة، فإنّ تحرّكه الذي حمل عنوان “أنا شارلي” أتى بعد أقلّ من 24 ساعة على هجوم إرهابي استهدف منطقة جبل محسن المنسيّة ربّما في طرابلس، هجوم لم يحمله على تغيير عنوانه ليصبح “أنا جبل محسن”، كما لم يستنفر قبلاً لرفع شعارات “أنا بئر حسن” و”أنا حارة حريك” و”أنا مسجد التقوى” وغيرها..
أنا شارلي..
“أنا شارلي”، أو بالتعبير الحرفي كما جاء في تحرّكات “نخبة” مجتمعنا المدني، “Je suis Charlie”.. شعارٌ رفعه الناشطون اللبنانيون على الأرض وقبلها على وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن “تضامنهم” مع “أمّهم الحنون” في مواجهة “الإرهاب” الذي وصل إليها على حين غفلة..
كلّ ذلك جميلٌ ولا يفترض أن يكون خاضعًا للمساءلة. التضامن هو صفة إنسانية نبيلة لا شكّ، وهو لا يمكن ولا يجب أن يكون خاضعًا لـ”مزاجية” هنا أو هناك. عندما يتضامن الفرد مع الآخر، لا يجب أن يسأل إن هذا الآخر تضامن معه في السابق أو سيتضامن معه في المستقبل. وفي مثل هذه الظروف، لا يجب حتى أن يفتح “باب المحاسبة”، ويسأل عن “المحرّض” و”المسبّب” و”المقصّر”.
التضامن مع فرنسا ومع غير فرنسا مطلوبٌ إذًا نصرة لحقوق الإنسان بالدرجة الأولى. وإذا كانت هناك “تحفظات” على أداءٍ مسيءٍ ما، فإنّ العنف والقتل والإرهاب ليس الوسيلة المناسبة للردّ، بل إنه يؤدّي الوظيفة المناقضة والمعاكسة تمامًا، بل لعلّه يكرّس الصورة المشوَّهة دون أيّ تعديل.
.. ولِم لا أكون جبل محسن؟!
استنفر المجتمع المدني إذًا للتضامن مع فرنسا، تزامنًا مع المسيرة التي وُصِفت بـ”التاريخية” التي اجتاحت شوارع العاصمة الفرنسية رفضًا للإرهاب، وتقدّمها قادة الدول، ومن بينهم رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو، قاتل الأطفال والنساء في غزّة وقانا وغيرهما.
لكنّ المفارقة تبقى في مكانٍ آخر، خصوصًا أنّ التحرك “النبيل” أتى بعد أقلّ من أربع وعشرين ساعة على هجوم إرهابي استهدف منطقة من لبنان، هي جبل محسن، وهو لم يكن بالمناسبة الهجوم الأول من نوعه الذي يستهدف منطقة لبنانية، ذلك أنّ الإرهابيين الذين دقّوا أبواب الغرب، الذي لطالما غضّ الطرف عنهم، تغلغلوا في الساحة اللبنانية منذ أكثر من سنتين، ونفذوا من العمليات الإرهابية ما لا يُعَدّ ولا يُحصى، وسقط بموجبها عشرات الشهداء ممّن لا ذنب لهم ولا إثم.
لكنّ “نخبة” المجتمع المدني لم تفكّر يومًا بالتضامن مع هؤلاء، بل إنّ بعض هذا “المجتمع المدني” وجد نفسه غير معنيّ بالتفجيرات التي حصلت، وساهم من حيث يدري أو لا يدري بـ”تبريرها” و”تكريسها”. ليست القصة فقط أنّ شعارات “أنا جبل محسن” و”أنا حارة حريك” و”أنا بئر حسن” و”أنا مسجد التقوى والسلام” غابت كليًا عن “رزنامة” هؤلاء طيلة الأشهر الماضية، بل إنّ هناك من اعتبرها “نتيجة طبيعية” في بيئاتٍ وُصِفت بـ”الحاضنة” لمن “استجلب الإرهاب” إلى أرضنا.
هل “تورّطت” فرنسا؟
يذكر اللبنانيون، وخصوصًا أهالي شهداء وجرحى التفجيرات الإرهابية التي طالت الضاحية الجنوبية وبعلبك والبقاع، التضامن “المزيّف”، كما يصفونه، الذي كان يمارسه بعض “المجتمع المدني والسياسي” معهم. يذكرون كيف أنّ “ترحّمهم” على الشهداء كان يُرفَق دومًا بـ”ثابتة” تحميل “حزب الله” وبيئته المسؤولية عن هذه التفجيرات، من خلال موافقتها على “التورّط” في الحرب الدموية الدائرة في سوريا.
طبعًا، لم تحضر هذه “الثابتة” في خطاب هؤلاء إزاء “مجزرة” باريس. لم يقل أحد من هؤلاء المتضامنين أنّ “الإرهاب” وصل إلى فرنسا بفعل “تورّطها” في مكانٍ ما، ولم يدّع أصحاب مقولة أنّ الإرهابيين كانوا ليتركوا الساحة اللبنانية تعيش بنعيمٍ واستقرار لو أنّ “حزب الله” لم يقف في وجههم، أنهم كانوا ليفعلوا الأمر نفسه في فرنسا. كان تضامنهم كاملاً وغير منقوص ولا مشروط، لم تعكّر “نبله” عبارة “دخيلة” هنا أو مجرّد “اتهام” هناك.
ولكنّ الأخطر من كلّ ذلك، وما يعزّز كلّ ما سبق، هو أنّ التضامن مع فرنسا ورفض الإرهاب أقرِن في “تحرّك” المجتمع المدني “النبيل”، بشعاراتٍ مناهضة لمكوّنٍ لبناني أساسي هو “حزب الله”. لم يتردّد “المتضامنون المدنيون” في وصم الأخير بـ”الإرهاب” بشكلٍ أو بآخر، وإدراجه مع التنظيمات الإرهابية في صفٍ واحد، بعد يومين فقط على خطابٍ للأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله بيّن فيه كيف أنّ الدين الإسلامي هو دين رحمة ومغفرة، وأنّ ممارسات هذه التنظيمات التي تنتحل صفة “الإسلام” تشوّه صورة الدين وتسيء له أكثر ممّا تفعل الرسوم المسيئة لرسول الإسلام نفسها.
بين شارلي وجبل محسن..
كم هو مؤلم إدراك أن حماسة اللبنانيين للتضامن مع باريس تفوقت على تضامنهم مع جبل محسن خلال الساعات الماضية، الأمر الذي دفع البعض للقول أنّ الإرهاب نفسه بات خاضعًا لـ”البرستيج” كما كلّ شيء في لبنان.
هو أمرٌ مؤلمٌ لكنه واقعٌ يحتاج لقراءةٍ معمّقة في مجتمعٍ بات يمكن القول أنه “يدّعي” المدنية وليس منها بشيء، بل يكاد يكون منخرطًا من حيث يدري أو لا يدري في “مشاريع” و”مؤامرات” لن تُحمَد عقباها…