كشفت أوساط رسمية مقربة من رئيس الحكومة تمام سلام لـ “السفير” أن الأيام العشرة الأخيرة شهدت مداولات بين عدد من المؤسسات الرسمية حول النفايات المشعة الموجودة في لبنان بكميات لا يستهان بها، وذلك على خلفية نصائح متتالية من الوكالة الدولية للطاقة الذرية لإيجاد أماكن لتخزين هذه المواد الموجودة حالياً في أكثر من مركز رسمي، وبحماية أجهزة رسمية.
كما جاءت هذه النصائح بالترافق مع تقارير تلقتها جهات رسمية لبنانية حول وجود توجه لدى عصابات ومافيات متخصصة بتهريب هذا النوع من المواد في منطقة الشرق الأوسط لنقل كميات إضافية من هذه المواد، خصوصاً بواسطة خردة الحديد، الى الأراضي اللبنانية، علماً أن الكميات الحالية تجعل خبراء دوليين يستنتجون أن مساحة لبنان هي خمسة أضعاف المساحة الحالية.. وإلا لما كان استقبلها!
ويعني فتح هذا الملف من جهات دولية أن مسؤولية وزير المال علي حسن خليل صارت مضاعفة، لجهة المضي بفتح ملف الجمارك في البر والبحر والجو، فضلا عن مسؤولية جهات رسمية أخرى، وخصوصاً الجيش، في مكافحة ظاهرة تفشي المعابر الحدودية غير الشرعية التي تصل هذه المواد عبرها الى الأراضي اللبنانية، وتطرح تحديات ومخاطر لا يمكن أن تستثني أحداً من اللبنانيين أو القاطنين على الأرض اللبنانية.
ووفق الأوساط الرسمية نفسها، فإن مصدر معظم هذه النفايات المشعة سوريا والعراق “وبعض دول المنطقة، ناهيك عن فضيحة كان قد أثارها وزير المال ولكن لم يعرض تفاصيلها حتى الآن، وهي تلك المتصلة باستيراد كميات كبيرة من الحديد المجدول من تشرنوبيل (أوكرانيا) بعد التسرب النووي مباشرة، وهي كميات تبين أنها لم تستخدم في تجارة مواد البناء، لكنها دخلت الى الأراضي اللبنانية، ويجري البحث عن الأماكن التي تم تخزينها فيها”.
وتوضح الأوساط أن هذا الملف أثير منذ عشرة أيام عندما تلقت دوائر رئاسة الحكومة نص القرار الصادر عن وزير الدفاع سمير مقبل، والقاضي بالطلب الى قيادة الجيش إنشاء مركز دائم لتخزين المواد المشعة في إحدى الثكنات العسكرية الواقعة في خراج بلدة عدلون الجنوبية في قضاء الزهراني (على بعد عشرات الأمتار من مقام النبي ساري).
وتشير الأوساط الى أن رئيس مجلس النواب نبيه بري وفور اطلاعه على نص هذا القرار، تمنى على المعنيين تجميده وسحبه، وبالفعل تجاوبت رئاسة الحكومة وقيادة الجيش ممثلة بالعماد جان قهوجي الذي اتصل برئيس المجلس وأبلغه أن القرار “كأنه لم يكن”.
وتوضح أوساط رسمية معنية أن الكواشف الالكترونية المتطورة التي ركبها الألمان عند جميع المعابر البرية بين لبنان وسوريا بعد العام 2006 تكشف هذا النوع من المواد المشعة فوراً، “ولذلك لجأت العصابات الى المعابر غير الشرعية، أو الى محاولة تمريرها عن طريق معابر رسمية غير برية بالتواطؤ مع موظفين فيها، وهذه النقطة تجري معالجتها حالياً، وثمة توجه ليس لإجراء مناقلات أو تشكيلات دورية، بل وضع بعض الرؤوس إذا ثبت تورطها في السجون”.
وتكمن الخطورة في كون هذه المواد تُستورد بعنوان خردة قابلة للتصدير الى بلدان تعمل على إعادة تدويرها، لكن عندما ينكشف أمرها، لا يحق للبنان تصديرها وتصبح جزءاً من منظومة اتفاقية منع الإتجار بالمصادر المشعة، أي ان لبنان يكون ملزماً بالبحث عن طريقة لتخزينها لأنه من الموقعين على الاتفاقية، وهنا تُطرح إشكالية من نوع آخر، وهي طبيعة الشروط البيئية والطبيعية التي تسمح بإنشاء مثل هذه المراكز للتخزين.
هذه النقطة تحديداً سلط الضوء عليها الأمين العام للمجلس الوطني للبحوث العلمية الدكتور معين حمزة في التقرير الذي سلمه الى رئاسة الحكومة، وأوضح فيه أن المركز الذي تم اقتراحه في عدلون لا يستوفي الشروط البيئية ولا الفنية ولا الطبيعية، اذ أنه يقع في منطقة زراعية ـ سياحية، إضافة الى قربه من السكان ووجود موارد مائية حيوية بالقرب منه (خطر الفيضانات)، فضلا عن نشاط زلزالي دائم في المنطقة كونها تقع على خط صريفا نفسه، واقترح البحث عن مركز تنطبق عليه معايير الوكالة الدولية والاتفاقيات الدولية، أي إقامة مراكز بمواصفات عالمية من حيث سماكة الإسمنت والعازل الرصاصي وعدم التأثر بالعوامل الطبيعية مثل الفيضانات والزلازل والهزات، علما أن الأموال لإقامة مثل هذا المركز مؤمنة من خلال الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وجرت العادة أن تكون هذه المراكز في معظم بلدان العالم خاضعة لحراسة رسمية على مدار الساعة، الأمر الذي يدحض فكرة دفن المواد المشعة في مناطق جردية نائية اذا لم تكن خاضعة للحراسة.
يذكر أنه تم تشكيل لجنة عسكرية فنية تضم 12 ضابطاً في قيادة الجيش من أجل البحث عن مركز بديل لمركز عدلون شرط أن تنطبق عليه معايير الوكالة الدولية، وأبرزها عدم قربه من مناطق سكانية. كما أن رئيس الحكومة أعطى تعليمات واضحة بالابتعاد عن العاصمة والمدن الرئيسية وبعض المناطق السياحية الحيوية.
وفي انتظار تحديد مركز جديد لتخزين هذه المواد، تُطرح أسئلة كثيرة بينها:
• ما هي الضوابط التي يمكن أن تحول دون استيراد كميات جديدة منها، خصوصاً أن الكميات الموجودة حالياً تحتاج الى بلد مساحته خمسة أضعاف مساحة لبنان؟
• من يستطيع أن يصارح اللبنانيين من دون إثارة الذعر ولا التأثير على الموسم السياحي أو التباكي عليه في أماكن تخزين هذه المواد حالياً، وهل هي آمنة وتنطبق عليها معايير الحد الأدنى؟
• إذا تمكن لبنان من تحديد بلد منشأ هذه المواد المشعة، لماذا لا يعيدها كما فعل في التسعينيات مع البراميل الكيميائية التي أرسلتها منظمة “الفاو” لمكافحة الجراد، وظلت لسنوات مرمية في مستودع رسمي لبناني في سهل البقاع، قبل أن تستعيدها المنظمة نفسها؟
• هل يصارح وزير المال اللبنانيين في قضية “الكونتينرات” الحديدية المشعة المستوردة من “تشيرنوبيل” في ثمانينيات القرن الماضي وأين هي اليوم؟
• هل يبادر وزير الداخلية الى حسم قضية الكواشف الالكترونية في مطار بيروت (الركاب والبضائع)؟
• هل يبادر وزير الصحة وائل أبو فاعور الى خوض معركة النفايات الطبية الخطرة في مستشفيات لبنان (أكثر من 100 مستشفى تنتج حوالي عشرة آلاف كيلوغرام من النفايات الخطرة يومياً)، وهل صحيح أن المستشفيات التي تلتزم المعايير الدولية (التعقيم والتخزين والحرق الخ…) لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة؟
• أين دور وزارة البيئة في هذا الملف البيئي ـ الصحي الخطير وفي غيره من الملفات، ولماذا لا تنخرط كغيرها من الوزارات، ولو من دون ضجيج إعلامي، في هذه المعركة ضد كل من يُعرِّض حياة اللبنانيين وسلامتهم للخطر؟
• أين دور القطاع الخاص في القيام بمبادرات من شأنها أن تعوض في بعض الأحيان ضعف دور الدولة وإمكاناتها؟