يتدحرج السياق السياسيّ اللبنانيّ رويدًا رويدًا نحو الهاوية العبثيّة باصطفافات تبدو في بعض نواحيها غريبة عجيبة. وينطلق هذا الأمر من مواقف تكشف أننا دخلنا بفعل الحرب الروسيّة-الإيرانيّة على الإرهاب، لحظات مريبة تشي بخلط أوراق داخليّة في حراك جذريّ ومتناسب بل متناسق مع صورة المرحلة المقبلة.
أوساط سياسيّة مرافقة للنقاش السياسيّ الداخليّ، خلف حجب العبارات رأت بأنّ لحظات الحقيقة قد دنت بالتغييرات الاستراتيجيّة، وتأمّن تعميمها في الإطار الداخليّ. تجليّات تلك اللحظات تكشفها الخطابات السياسيّة المنطلقة من كلّ الاتجاهات، فمن جهة رئيس تكتّل “التغيير والاصلاح” العماد ميشال عون، لن يعود إلى الحكومة قبل تعيين قائد للجيش يزكّيه كممثّل لأكبر كتلة مسيحيّة. ومن جهة أخرى يأتي خطاب وزير الداخليّة نهاد المشنوق ملوّحًا بدوره بالاستقالة، ومصوّبًا سهامه نحو “حزب الله” على خلفيّة فلتان الأمن في البقاع وقد ردّ عليه وزير الصناعة حسين الحاج حسن مهدّدًا بكشف المحاضر حيث فيها ظهر المشنوق في نقاشاته على طاولة عين التينة بخلاف الموقف الإعلاميّ أمام جمهور من لون واحد… ليبدو خطاب الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله الردود على من لوّح بالاستقالة من الحكومة. استقالة من هنا واعتكاف من هناك، كلّ ذلك عنى بصورة جليّة بأنّ الحكومة ليست فقط في أزمة أو معطّلة، بل إنّ السلطة السياسيّة بتكوينها المذهبيّ والحزبيّ وحضورها في أزمة وجود.
أمّا من جهة ثالثة، فقد جاءت دعوة النائب مروان حمادة لنظيره رئيس “تيار المستقبل” سعد الحريري، للعودة “لأنه الحبيب والثورة قبل الثروة”، لتكشف عمق الخواء السياسيّ الكبير ليس في التيار الأزرق بل في قوى الرابع عشر من آذار، في استمرار غياب القائد-الثورة، وفي ظلّ نظريات جدليّة حول علاقة الحريري بالنائب فؤاد السنيورة، حيث بعضهم مائل إلى أنّ العلاقة سيّئة وغياب الحريري أدّى لاستهلاك السنيورة قيادة “المستقبل” إلى حيث تذهب أهواؤه مع صقوره، ونظريّة أخرى اعتبرت بأنّ ثمّة تبادلاً للأدوار على الرغم من النفور، فمجيء الحريري حاسم بالنسبة لمركزية السلطة في “تيار المستقبل” وفي إنتاج مسار سياسيّ واحد وواضح. لكن وفق أية معايير يأتي إلى لبنان؟
أوساط سياسيّة هادئة توقّعت بأنّ يكون مجيء الحريري، إذا تمّ، مرتبطًا ببرنامج سعوديّ بدأت فيه السعوديّة تتموضع من خلال قوى تبدو في الشكل ليبرالية أو معتدلة، لكنّ التموضع من شأنه أن يقودها نحو مزيد من التماهي مع القوى التكفيريّة والإسلامويّة في سوريا، وفي استجلاب الصراع باتجاه لبنان. وتكشف الأوساط عينها بأنّ لقاء الملك سلمان بن عبد العزيز مع رئيس “اللقاء الديمقراطي” النائب وليد جنبلاط نما في ظل سعي مشترك ومزدوج بين السعوديّة والزعيم الدرزيّ بإعادة الاعتبار لجوهر العلاقة التاريخيّة بين المملكة وجنبلاط، وترسيخها في المعطى السياسيّ الداخليّ بتفاصيله ومعانيه، مع تصاعد الحرب الروسيّة على الإرهاب في سوريا. وتشير الأوساط إلى أنّ سعد الحريري سعى باتجاه تحقيقه للحدّ من طموح رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع ليكون كلمة السعودية المطلقة والتي لا حدود لها. لا يستهلك الحراك السعوديّ في الداخل اللبنانيّ الأوراق المسماة ليبراليّة أو معتدلة فقط، بل يستهلك بدوره الأوراق الإسلامويّة المتشدّدة في لبنان كهيئة العلماء المسلمين، في ظلّ ما يحكى عن حلف كبير جامع ما بين الأتراك والسعوديين والقطريين وانبثاثه نحو الداخل السوريّ عبر دعم لوجستيّ وعسكريّ يقدّم للقوى التكفيريّة. وما الهجوم المركّز على “حزب الله” سوى جزء من هذه الآليّة الذي بدأ يحضر للبنان من جديد، ليكون ساحة اشتباك سياسيّ وأمنيّ، وكأنّها المخاض السابق للولادة، يستهلك العنوانين المطروحين محوريّ الأزمة: قانون للانتخابات النيابيّة، ورئاسة الجمهوريّة.
وما من شكّ بأنّ ثمّة ولادة جديدة تنتظر لبنان في مطلاّت واقعيّة يرمّم فيها نظام جديد، وفق قواعد الاعتدال، والتوازن في علاقة المكوّنات اللبنانية ببعضها البعض. السفير الروسيّ ألكسندر زاسبكين، اعتبر في حديث له مع عدد من الصحافيين، بأنّ الخطر زال عن لبنان، بعد حسم معركة تدمر، وقطع الطريق بين حمص والحدود العراقية، وتوسّعًا بين الحدود اللبنانيّة الشمالية والبقاعيّة-الشمالية والحدود السوريّة العراقيّة. لكنّ بذار الخطر الداخليّ للمنظمات التكفيريّة بشقّها اللبنانيّ، لا تزال واضحة المعالم في عرسال وعكّار وحتّى في بعض من أحياء العاصمة وصولاً إلى مخيّم عين الحلوة.
لقد بدأت تلك المرحلة تتكشّف، مع تجويف طاولة الحوار من مضمونها الجديّ، وضيق الآفاق أمام تلاقي الأفرقاء في محاولة لكسر تلك الحروفيّة المهيمنة على أطروحات جامدة كمثل رفض فريق سياسيّ وازن للعماد ميشال عون، من دون إبداء أيّ تعليل واقعيّ للرفض، والتشديد على التعليل السياسيّ المحفورة عباراته بكيديّة صارمة تجاه مكوّن لبناني. ويعلّق مرجع سياسيّ قائلاً: “لو شاء فريق المستقبل اعتماد التسوية لكان لبنن سياقه في الأساس، وارتضى بالتسوية الصغيرة كمقدّمة فعلية لتسوية الرئاسة. وبذا سيكون هذا الأمر مكسبًا كبيرًا للبنان وميثاقه، ومكسبًا لسعد الحريري قبل سواه، لأنّ مجيئه إن كان هادفًا للعودة نحو رئاسة الحكومة فالعودة بدورها محكومة بانتخاب من يمثل المسيحيين بأكثريتهم المطلقة، ولن تكون بوجود رئيس توافقيّ. الرياح الهابّة في المنطقة تقود نحو هذا الاستنتاج بنتائجها ولا نقود نحو أيّة استنتاجات أخرى”.
وعلى الرغم من ذلك فإنّ الانفعال بسياقه السعوديّ وواجهته اللبنانيّة لن يفيد بشيء. اللحظة هي الآن والغد، وليست محصورة بالأمس وما قبله، على الرغم من أنّ المستقبل غير منفصل بالمطلق عن التاريخ، والتاريخ ضوء المستقبل كما قال الدكتور شارل مالك.
لبنان في ظلّ جدّة المرحلة وجديّتها، مأخوذ إلى اتفاق سياسيّ جديد. لن يبقى أسير طائف مات وبطل وجوده، أي أسير جثّة عفنة. ومعروف تاريخيًّا بأن لبنان بلد التسويات الجامعة لكلّ الفرقاء. وإذا رام الفرقاء السياسيّون اتفاقًا رضائيًّا متلبننًا بجوهره الميثاقيّ، فما عليهم سوى أن يعقلوا ويعدلوا. أمّا إذا بقوا مستلذّين ومستطيبين ما كان يسميه غسان تويني “الثقافة المتراسيّة” بسلوكياتها المختلفة، فإنّ التسوية الداخليّة سيفرضها منطق الغالب على المغلوب.
جورج عبيد – خاص النشرة