هناك محطات تاريخية عابرة للمحن ! ورجال فوق العادة يتنكبون على اكتافهم الجبارة ، مسؤوليات جسام وفوق العادة . لتثبيت تلك المحطات . ففي الوقت الذي تتكالب فيه جميع أمم الأرض على أمتنا ، من أجل تفتيتها وتقسيمها ، وإعادتها الى غياهب الزمان الغابر ، الى ما قبل الاديان السماوية ، واعادة عجلة التاريخ الى الوراء والسّير عكس عقارب الساعة ، لإبعاد الناس عن بعضها ، وتقسيم المقسّم وتفتيت المفتّت ، وقيام الشعب على بعضه ، وخلق صراعات مذهبية وعرقية وإثنية في هذا الشرق .
جاءت زيارة نيافة الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي الى عاليه وبعض بعبدا ، بمباركة ومواكبة رئيس الحزب الديمقراطي اللبناني ، الامير طلال ارسلان ، لتطلق مجموعة لاءات ، سيكون لها صداها في تغيير الكثير من مجريات الامور في وطننا اللبناني . جاءت الزيارة الى عاليه ، لتقول لا للانعزال والتقوقع ، لا للفرز الطائفي ، لا لمصادرة حقوق اللبنانيين ، لا للفراغ الرئاسي ، لا لتهجير مسيحيي الشّرق .. لا للفتنة وتشويه النسيج الوطني اللبناني .. ولا لجرح نازف في كفرمتى وغير كفرمتى ، فجراح الوطن يجب ان تندمل .
ولم تكن زيارة رعوية بمفهومها المذهبي الضّيق ، بل زيارة مسؤول مُدرك لعمق الرسالة التي يحملها ، في وقت علت فيه اصوات النشاز والتقسيم ، في وقت تحوّلت فيه ساحات الوطن الى استعراض للقوى ، لنتش ما امكن نتشه من فتات ، وتطويب ما امكن تطويبه من مكاسب على حساب الوطن . أتت تلك الزيارة من راع يعرف رعيّته ورعيّته تعرفه ، لتقول لكل من تسوّله نفسه العبث بأمن هذا الوطن ، وفي لقمة عيشه وهنائه ، قف مكانك فقد تخطّيت المحذور . أتت لتثبيت مسلّمات وطنية ، انتهجها البيت الارسلاني منذ تأسيسه ، اي في العام 799 للميلاد ، وما زالت كما هي دون تردد او تغيير . وهذا ما عبر عنه الامير طلال ارسلان في الخطابين اللذين القاهما في دار خلدة خلال العشاء التكريمي وفي السرايا الأرسلانية “لقد ثبُتَ أن التاريخ يتكرّر، ولو بتبدّل عناصره وظروفهِ. فالمتغيّرات الدوليّة الحاصلة اليوم ، تؤكد أنّ فكرة حماية الثغور، ملازمة لفكرة الدفاع عن لبنان . كيف لا ؟! وحمَلات الإستعمار لا تتوقّف مهما تعددت الصيَغ والأشكال لهذه الحملات . كما يتبيّن أنّ قدرَ لبنان أولاً أن يكونَ وطنَ الحريّة وفي الوقت نفسه ، أن يحملَ مهمّة الدفاع عن العروبة في وجه الإرهاب والتكفير . إنّها حقيقة لا مجال للتهرب منها ، لأنّ العدوان الإستعماري مصممٌ على أن يستمرَّ ومصممٌ على أن لا يوفرنا . كيف لا ، وإسرائيل رأسُ الحربة الإستعمارية متاخمة لأرضِنا ، ولها مهمّتها العدوانية . وطبيعتها المختلفة بالكامل عن طبيعتنا . وعنصريتها لا تحتمل التنوّع الثقافي والديني ، الذي يتميّزُ به لبنان الحريّة والتنوّع والإنفتاح الثقافي والحضاري … لقد تبيّن لنا من خلال تجاربنا المرّة ، أنّ قدرنا هو الإعتماد على أنفُسنا. لقد حاولنا الإعتماد على الأمم المتحدة…فثبُت أنها لا تحمينا ولا تحمي حتى القرارات التي تتخذُها هي. وأردف: “حاولنا الإتكال على الجامعة العربية فخذلتنا ، مراراً وتكراراً وهي التي خذلت نفسها أساساً . لم نترك باباً من أبواب الصداقات الدولية إلا وطرقناه ، على مدى أكثر من نصف قرنٍ من الزمن فكانت النتيجة هي الخيبة . يكفي أن ننظر إلى خارطة العالم ، ليظهر لنا بوضوح ، أنّ ما من منطقة واحدة تعرفُ الإستقرار وتنعم بالحياة الآمنة . ليس أمامُنا سوى أمريْن.. الأول: أن نتابعَ الإتكال على أنفسنا ، فنحافظُ على قوة الردع الوحيدة المتوفرة لنا ، والتي أثبتت فعاليتها . والمتمثلة بالقاعدة الذهبية المكونة من ثلاثي القوة، الشعب.. والجيش.. والمقاومة. ثانياً: علينا في الوقت نفسه أن نحرص على وحدتنا الوطنية الداخلية . .. وأضاف : ” إننا نُدركُ أنّ هذه الكوارث التي تعم في مشرقنا بأكمله ، تستهدف من ضمن ما تستهدف ، الوجود المسيحي فيه. والوجود المسيحي المكوّن للوطنية ، هو أمانةٌ في أعناق كلّ وطني. واليوم أكثر من أي وقت مضى نعتبرُ أنّ التصدّي للمؤامرات الدولية المتوحّشة ، تقتضي بأن يكونَ رأسُ الدولة اللبنانية مسيحياً . لأنّ المؤامرات الدولية تريدُ إزالة المسيحية ، وإقتلاعِها نهائياً من أرض المسيح… ونحنُ نتمسّك بها… ونعلم جيداً، كم تبذلون من جهودٍ مضنية وصادقة وكريمة لدفع زعامات الطائفة المارونية للإتفاق فيما بينهم ، على تقديم رئيس منهم للرئاسة ، كخطوة إلزامية ومباشرة لحلّ مشكلة رئاسة الجمهورية. إذ لا يعقُل ، أن لا يكون للدولة رئيسْ ، وهذا أضعف الإيمان . انتهى كلام الامير طلال ارسلان ، ليأتي رد صاحب الغبطة ، مؤكدا على كلام ارسلان ومتبنيا له . “عطوفة الأمير، شكراً على كلمتكم من ألفها إلى يائها . شكراً لأنّك أفسحت عمّا في قلبك وقلب الكثيرين من اللّبنانيّين . بدأت كلامك الرّائع وقلت : ينبغي أن نعتمد على نفوسنا وأشرت الى ان اعتمادنا على منظّمة الأمم المتّحدة باء بالفشل ، كذلك اعتمادنا على جامعة الدّول العربيّة كما قلت، لم يأت بنتيجة. لذلك كان لا بدّ لنا من أن نعتمد على أنفسنا. نحن لا نستطيع إلاّ أن نعتمد على الأسس التي تكوّن عليها لبنان . نعتمد على عيشنا معاً ، هذا العيش الواحد. نعتمد على دستورنا ، وعلى الميثاق الوطنيّ . نعتمد على الجماعة السياسيّة التي من واجبها أن تحمي الدّستور والميثاق ، ومن واجبها ايضا أن تحمي مؤسّساتنا الدّستوريّة ومؤسّساتنا العامّة . نعتمد على الجماعة السياسيّة، لكي تأتينا بدولة قويّة وقادرة ومنتجة وهذا واجبها وواجب المواطنين جميعاً . أقول هذا لأنّه ينبغي أن نقول: خطيئتي عظيمة ، لأنّنا نحن لم نعتمد على أنفسنا بما فيه الكفاية والبرهان ، لكي ننتخب رئيساً للجمهوريّة ، نعتمد على الخارج، كمن يعتمد على السّراب .”
وأضاف غبطته:” شكراً لك عطوفة الأمير على هذا العشاء الأخويّ والمحب، على هذا اللّقاء الجامع الآن وقبله في السّرايا الإرسلانيّة . شكراً لمحبّتك العظيمة ، شكراً لأنكّ عبّرت بإسم هذا الجمهور الكريم ، عمّا في قلوب كل اللّبنانيين ، نحن نأمل ونرجو، ان نكمل مسيرة النهوض بلبنان . السّاعة أتت على ما أعتقد . بلادنا تتهاوى وتتفكّك ، وكأنّها بُنيت من كرتون ، ولكنها في الحقيقة قوية . هي لم تُبنَ من كرتون ، عمر لبنان 95 سنة ، والامير مجيد إرسلان ، امير الإستقلال ، هو من الرّجالات الذين صنعوا وطناً يليق بنا وبتاريخنا الطّويل ، وينبغي علينا أن نُكمل المسيرة.”
فرحت جدّاً عطوفة الأمير، عندما بدأت كلامك ، “ينبغي أن نعتمد على أنفسنا . “فإن لم يبنِ الرب البيت ، عبثاً يتعب البنّاؤون”. ونقول: “إن لم يبنِ ربّ البيت”، نحن اللّبنانيين ربّ البيت ، عبثاً يتعب كل أصدقائنا من قريب أو من بعيد ، طالما نحن لم نبنِ بأيدينا.”
وقال غبطته:” أليس مخجلاً ان نسمع نداءات من الخارج القريب والبعيد ، وكأنها تترجّى اللبنانيين أن ينتخبوا رئيساً ، اليس هذا بالأمر المعيب؟ أهذا يعني أنّنا نعتمد على أنفسنا ؟ ألم نتعلّم كما قلت عطوفة الامير، أنّنا لا يمكن أن نعتمد على الخارج ، فالخارج يعتمد على مصالحه. هذا القول عن لبنان ، نقوله أيضاً عن عالمنا العربيّ ، “المسكين.” كيف يهدم بيته بيده ، وكيف يهدم حضارته بيده ، وثقافته بيده ، وكيف ينفتح وقد قلتها يوماً ، في إحدى لقاءاتي في الخارج ، في جنيف مع سفراء الدّول العربيّة كلّها. قلت: هل أصبحت الحضارة العربيّة ، هل أصبحت ثقافتنا المشتركة ، أنّنا نحن مستهلكو اسلحة الغرب ، هل أصبحنا أدوات لتحقيق مصالح تأتينا من الخارج ، كلّها هدّامة ، ألم نتعلّم بعد؟! أقول هذا بصرخة من القلب والضّمير في دارة الأمير مجيد إرسلان ، وفي حضرتك عطوفة الأمير، أنت الذي في كلّ مرّة تصرخ في هذه الدّار، ونسمعك اليوم وسمعناك بالأمس أنّت تصرخ صرخة ، هذا بطل الإستقلال ، هذا المحب للبنان ، الأمير مجيد إرسلان.”
نعود إلى بيوتنا ونفترق حاملين شعلة إيمان وحبّ للبنان ونختصر كلّ كلمة عطوفة الأمير الإعتماد على أنفسنا فنخلص ، عشتم وعاش لبنان.”
حاولت باختصار شديد ، تسليط الضوء على بعض ما حملته هذه الزيارة ، التي لا شك انها مباركة . والتي أثبتت انه طالما جبل لبنان بخير ، فلبنان يجب أن يكون بخير . هذا اللبنان الذي اتّضحت معالمه ، منذ امارة سن الفيل ، التي مهّدت لقيامة لبنان الكبير . واستشهد هنا بكلام الامير طلال ارسلان الذي قال في الشويفات : ” نحنُ في قلب الورشة المعماريّة التاريخية الكبرى ، التي كان قد بدأها الأسلاف المجاهدون ، حين أسّسوا الإمارة في سن الفيل . فكانت حجر الزاوية لما أصبحَ يُعرفُ فيما بعد بإمارة جبل لبنان ، التي بدورها شكلت النواة الصلبة للكيان اللبناني “…
إنه لبنان الحقيقي الذي رأيناه في السرايا الارسلانيّة ، في استقبال نيافة الكاردينال ، لبنان بكل مكوناته السياسية والروحية والاجتماعية . لبنان الذي نعوّل على قيامته ، بتظافر جهود كل المؤمنين به . فلقاء الشويفات كان الحراك الشعبي الحقيقي ، وعودة الى التاريخ الذي يجب الا يضيع . نعم كان حراكا شعبيا حضاريا ، لبداية تغيير حقيقية . فالتغيير لا يعني نسف الجذور والتخلي عن الهوية ، التغيير يأتي في الذّهنية والرؤية اولا . التغيير يأتي بعد اكتشاف الخلل ، وفي لقاء الشويفات تم وضع اليد على الجرح . وجرحنا متمثّل بمصادرة قرارنا وسرقة احلامنا . جرح لبنان الدامي هو بتسليم قرارنا ومصيرنا ، لمن لا يعنيهم المصير !. التغيير يبدأ بعقد اجتماعي جديد اعلن عنه غبطة البطرك صراحة ، وتقاطع مع دعوة رئيس الحزب الديمقراطي اللبناني لعقد مؤتمر تأسيسي يعيد صياغة النظام وليس نسفه . التغيير لا يبدأ من الفراغ، التغيير هو انطلاق من واقع يُبنى عليه . والطائر له جناحان ، ولا يطير بثلاثة . ولبنان يجب ان يطير ويحلق بجناحيه ، ولا يحاولن احد تركيب جناح ثالث ، والدعوة للمؤتمر التأسيسي ليست لتركيب جناح ثالث، بل لتدعيم الجناحين الذي يحلّق لبنان بهما .