السفير
أنا أو الخراب.. آخر من قالها أردوغان…
قالها بحصار الديموقراطية وإفراغها من معناها، وباستعراض القوة العسكرية الجامحة على الأكراد، وببناء «جمهوريته» على هندسة سلطانية.
حاكم مثل أردوغان نموذجي، فهو قاطع طريق على إعادة بناء مجتمعات تعيش «حياة المدينة»، لا تتلقاها كموديل سلطوي من أعلى (الديموقراطية الأتاتوركية) ويتعامل مع الصناديق على أنها «صكوك ملكية» للبلاد، وهي ديموقراطية مشتعلة، تعالج عجز جماهيره المشتاقين إلى استعارة قوة يفتقدونها عبر تمثّل الزعيم الملهم / أو السلطان الحائر بين منطق التجار ومحارب قضايا الأمة… وهي خلطة صالحة للاستخدام من القوى الدولية.
أمثال أردوغان يسودون الآن هذه البقعة من العالم، يلتقون في ذلك مع دبيب يجتاح إسرائيل، حيث يصعد بنيامين نتنياهو برواياته الشعبوية الرخيصة عن المحرقة، ليداوي القلق من فقدان «الأسطورة الصهيونية» تماسكها أو هيمنتها.
لعبة هؤلاء الأساسية على الاصطفاف بما أنه عدو السياسة، ومخرّب حياة المجتمعات (بشحن عدوانية الأغلبيات ضد محاولة الأقليات في التعبير الحر عن نفسها)، وهم الآن أكبر من أن يكونوا حكّاماً، هم مثل «شركة المرعبين المتحدة». يستشرسون في الداخل باعتبار الشراسة هي حارسة الاصطفاف أو تمكّن الأغلبية، وهم في الوقت نفسه خدام النيوليبرالية المحافظة الفخورة بنعراتها الفاشية.. يظهرون في صورة المخلص ـ بينما يدمّرون فرص التغيير أو الخروج من دائرة الخراب. يحكمون بـ «البارانويا»، حيث تتضخم ذواتهم مقابل انهيارات «مستعمراتهم» التي تسمى دولاً.
ــــ 2 ــــ
أردوغان هو «الموديل» الذي كلما فشل، أو اقترب من نهايته، اشتعل الخوف من مكان غامض، مهدداً بالإرهاب، شاحناً حرباً أهلية باردة، تستهلك فرص التغيير أو فرصة حياة مدينية حديثة.
وهو في ذلك يلتقي مع «موديل» الجنرالات العرب، ورثة الاستبداد القديم، الذين يقدّمون أنفسهم على أنهم خصوم أردوغان ونسخته الإسلامية، وفي الوقت نفسه يلتقون معه في تدمير المجتمعات.
التنافس بين الخصوم، لا يعني بطولة أحدهما إلا بين جماهيره المتعطشة لوهم ما يداوي نرجسيتها الجريحة، أو يربي عجزها كمخزون استراتيجي للبقاء في الحكم.
وفي التاريخ خرجت «البارانويا» من تعريفها على أنها مجرد «جنون العظمة»، وذلك عبر تجارب حكم، تجاوز فيها المريض تدمير ذاته، إلى تدمير مجتمعات رأت فيه المنقذ، رسول إنقاذها.
و«البارانويا» هي التفسير الوحيد لما حدث في الأرجنتين مع حكم الجنرالات في العام 1976، والذين أصبحوا مثالاً لطريقة في الحكم يصدّق فيها الحكّام أنفسهم إلى درجة مدمّرة.
الجنرالات تصوروا أنهم سلالة فريدة، لا بد من استنساخها لتعيش الأرجنتين سعادتها ونعيمها الأقصى.
صدّقوا أنفسهم كسلالة مصابة بـ «بارانويا» معزولة عن الواقع تحكمها الضلالات الداخلية… صدّقوا فعلاً أنهم «هدية من الله» إلى درجة أنهم استحلّوا لأنفسهم اغتصاب مجموعات من النساء لتحمل أرحامهن أطفالاً يحملون جيناتهم العبقرية / المبعوثة من الآلهة، لإنقاذ الأرجنتين، وربما العالم.
في هذه المسافة بين جنون العظمة واللعنة، يبدو مصير الجنرالات المخابيل مثيراً للتساؤل. فهم مطاردون الآن بمحاكمات وتجريم ويعيشون نهايات مفزعة، بعد أن تركوا ندوباً لا تُمحى من الألم والقسوة والوحشية التي عاش فيها الناس في الأرجنتين خوفاً من رحلات الموت.
ــــ 3 ــــ
أردوغان وأشباهه من خصومه (في القاهرة ودمشق وغيرها من بلاد يركبها الجنرال) يتصارعون على مَن سيفوز بسباق «السلطوية».
لا خلاف بينهم، بل تنافس على من سينجح في «أسر» مواطنيه بسحر «البارانويا» ولعنتها.
وهذه منافسة قديمة، لكنها تأتي اليوم بعد أن فقدت صلاحيتها، فلم يعد الحل في استمرار الاستبداد الدولتي، بحكم البيروقراطية العسكرية، ولا في بديلها الإسلامي.
ناشرو الرعب لا يصدّقون أن فكرة السلطة تغيّرت، وأن صيغتهم لم تعد صالحة إلا كاكتمال «الكارثة».
لا سلطة يمكنها أن تحكم عقول الناس جميعاً. فالإعلام لم يعد ملك «بروباغاندا» واحدة، ولا سحر «الميكرفون» والصورة. ما زال فتاكاً ومؤثراً كما كان أيام ملوك ورواد «البروباغاندا» الشعبية من هتلر وموسوليني إلى نسخهم الإقليمية والمحلية.
ليس هذا زمن البطاركة.
ومَن يتصوّر نفسه كذلك، فإنه حسب وصف مبسّط يعاني «بارانويا» تفصله عن الواقع، وتضعه في أسر تخيّلات إن صدّقها، فهو ذاهب إلى كارثة، مع من يصدّقه ومن يعترض عليه.
ليس هذا زمن الحاكم الأب / المنقذ مبعوث العناية الإلهية / وإن كان هناك من يتصوّر نفسه كذلك، وإن كان هناك جمهور بائس يبكي منتظراً المعجزات.
هذه خزعبلات تعتمد على تأثير الصدمة التي تحدثها «البارانويا» على المسرح، والخيبة التي يعيشها شعب طلب التغيير فحاصرته الكوارث.
بينهما، تنشط الآن جماعات تفرض سطوتها بقوة الأمر الواقع، وهي تدوس على كل قاعدة أو قانون يمكنه أن يقيم الحياة في هذه البقعة من الأرض.
البلاد رهينة مَن يريدون إعادة الناس إلى الحفرة.