بعد أشهر من الأخذ والرد، التأكيد والنفي، ها هو الإعلان يأتي صريحاً من الولايات المتحدة: «المنطقة المغلقة» على الحدود السورية ـ التركية، ستكون أمراً واقعاً.
الكثيرُ من الأسماء أطلقت على هذا المشروع، لكنها أسماء فشلت في جمع مطالب وأمنيات عربيه. واشنطن رفضت سابقاً مفهوم «المنطقة الآمنة» وتلك «العازلة»، وفق المطالب التركية، ليتقارب الجانبان على تسمية «الخالية من داعش»، قبل أن يمكنهما توفيق مصالحهما في مفهوم «المنطقة المغلقة» أمام نفط «داعش» ومقاتليه. ليس معروفاً كيف ستعمل تلك المنطقة بالضبط، وأي أهداف أخرى يمكن حقنها داخلها، لكن واشنطن تؤكد أن هناك «اتفاقاً كاملاً» مع أنقرة حول تطبيقها.
وأعلن المتحدث باسم البيت الأبيض جوش إرنست إن الولايات المتحدة غير راضية عن وجود ثغرة على حدود تركيا وسوريا، وأن بعض المناطق لم يتم تأمينها بشكل سليم.
الخلاصات تلك نقلها وزير الخارجية الأميركي جون كيري، في مؤتمر صحافي، خلال مشاركته في اجتماع وزراء خارجية «حلف شمال الأطلسي» أمس. حينما سُئل عن تعليقات رئيسه باراك أوباما حول إغلاق الحدود التركية أمام منافع «داعش»، أكد أن القضية في حكم المنتهية: «هناك 89 كيلومتراً تبقى في حاجة للإغلاق، ولدينا اتفاق كامل للتحرك الذي نحتاجه لإغلاق هذا الجزء، (الرئيس التركي رجب طيب) أردوغان ملتزم بذلك».
الوزير الأميركي بيّن أن مشاورات عسكرية قائمة الآن لتنفيذ الاتفاق السياسي، موضحاً أن من سيتولى التطبيق قدرات عسكرية مختلطة يجري بحث حجم مكوناتها المطلوبة. من سيشارك في إنشاء تلك المنطقة «المغلقة» كما قال، «مزيج من سلاح الجو والتحالف والقوات التركية وقوات المعارضة على الأرض، يمكن أن تنضمّ معاً من أجل ضمان أمن تلك المنطقة»، قبل أن يضيف «أنا واثق من أن هذا سيحصل».
القضية كانت مطلباً تركياً رفضه الأميركيون مراراً. أرادت أنقرة «منطقة آمنة»، يحميها مجالُ حظرٍ جوي، يمكنها أن تتحول إلى ملاذ لقوات معارضة. روجت لها على أساس أنها ستكون أيضاً منطقة محمية لإقامة مخيمات اللاجئين، قبل أن تطرحها كحل لا غنى عنه لشكوى الأوروبيين من تدفقات سيل اللجوء.
أوباما عارض الفكرة لفترة طولية. اعتبر مرةً أن هذا الطرح التركي، المختلف عليه داخل إدارته، يمثل «أنصاف أفكار». لكن «الاتفاق الكامل» لم يهبط فجأة. حينما فتحت تركيا قاعدة «أنجيرليك» الجوية أمام الطيران الأميركي، خرج المسؤولون الأتراك فوراً للحديث عن مقايضة يقبل فيها أوباما إنشاء تلك المنطقة. كذّب الأميركيون الرواية، ليقول مسؤولوهم إن القضية قيد نقاش لم يسد كل الثغرات. كان واضحاً أن الطرفين يعملان على اتفاق، مع محاولات للتوفيق بين ما يريدانه من تلك المنطقة.
الآن، يبدو أن «المنطقة المغلقة» باتت قادرة على تحقيق ذلك الوفاق في المصالح. حتى الآن، لم يتضح كم سيكون الذي ستسمح به تلك المنطقة: ما الذي ستحمله من أهداف «المنطقة الآمنة»، وما الذي ستحمله من أهداف «الإغلاق». بكل الأحوال، تبقى أنقرة وواشنطن، على تباين سياستهما، حليفتين في خندق واحد ضد النظام السوري وحلفائه. لحظة «الاتفاق» بينهما لا يمكن عزلها عن سياق ما أنجزه التدخل الروسي، خصوصاً بالنظر إلى رد الفعل المفاجئ بإسقاط أنقرة مقاتلة «السوخوي».
خلفيات تلك الدوافع لم تكن غائبة عن حديث كيري. في أحدث اصطلاحاته، مشدداً على عدم نيتهم تقويض مؤسسات الدولة السورية وجيشها، قال إن هدف الانتقال السياسي «ليس تغيير النظام، بل تغيير (الرئيس السوري بشار) الأسد». خاض في مرافعة تفصيلية تؤكد رفض معسكرهم أيَّ إحياءٍ لدور الأسد، مبيناً أن «هناك قناعة قوية لدى الجميع في الإقليم، مع استثناء أو اثنين، ولدى جميع شعوب العالم، أن الأسد نفسه لا يملك الشرعية ليمكنه إشفاء البلد وإعادة توحيده وإقامة المصالحة»، معتبراً أن هناك «التزاماً قوياً لدى الغالبية» على طاولة الحل السوري، باستثناء إيران وروسيا، معقودٌ على أن «الأسد لا يمكنه، حتى لو أردنا، أن يكون جزءاً من المستقبل، لأنه لا يمكن إنهاء الحرب بينما هو هناك».
برغم ذلك، بات واضحاً من كلام الوزير الأميركي أن ما يريده معسكرهم هو «التزام» إيراني وروسي لدفع الأسد كي يتعاون لإنجاز التفاوض حول الانتقال السياسي، لكن على أساس أنه لن يكون جزءاً من الحكم المستقبلي. من غير السير في تلك الوجهة، سيقود كل طريق آخر إلى استمرار الحرب وعدم هزيمة «داعش»، كما قال: «إذا لم يمكن إنجاز هذا الانتقال، ودعوني أكون واضحاً، لن تنتهي الحرب. لذلك لدينا مهمة هائلة، لكنها قابلة للإنجاز».
أما لجهة الضمانات، فتحدث كيري عن الحرص على حماية كيان مؤسسات الدولة، مشدداً على أنه «لا نريد للجيش أن ينهار»، قبل أن يشير إلى ان تجربة العراق كانت «عبرةً»، لأنها كانت خياراً «كارثياً».
لكن كل تلك التطمينات لا يمكنها أن تنقي الأجواء من الشحن الشديد، خصوصاً مع الغضب الروسي المعلن من أنقرة الآن. إذا كانت موسكو لم تمانع في استهداف مجموعات معارضة تركمانية، تعمل تحت المظلة التركية، فكيف سيكون رد فعلها على تلك «المنطقة المغلقة» مع الحصة التركية «الآمنة» فيها؟
العارفون بالسياسة الروسية الخارجية يقولون إن نسبة النجاح لمسار الانتقال، مهما كانت، هي أقل الآن بعد التأزم الأخير. يدعم هذا الرأي ألكسندر مينييف، مراسل صحيفة «نوفو غازيتا» في أوروبا، المعروفة بنهجها الناقد للحكومة. حينما سألته «السفير» عن تحليله، قال إن «الغرب الآن وروسيا لديهما حربان مختلفتان في سوريا»، قبل أن يضيف «حرب روسيا ضد كل أعداء نظام الأسد، وليس فقط ضد داعش، أما الغرب فحربه مختلفة. ذلك بالطبع سيؤثر، خصوصاً بعد إسقاط الطائرة الروسية، لذا سيكون من الصعب الوصول لاتفاق في المدى القصير».
يرصد مينييف أيضاً كيف تخلت دول أوروبية عن تحفظاتها السابقة، خصوصاً مع قرار فرنسا وألمانيا المشاركة في التحالف الغربي ضد «داعش» في سوريا. يقول عن مسوغات ذلك: «أعتقد ان مشاركة روسيا في هذه الحرب حركت قرار الآخرين ليكون لهم وجودهم في العمليات، لكن من دون أن يتفقوا من هو العدو، من هو الإرهابي الذي يجب مقاتلته والمعارض الذي يجب إشراكه، فليس هناك فرصة للاتفاق أو الحديث عن هيئة حكم جديدة في سوريا».
أجواء التأزم بين الغرب وروسيا تسير من توتر إلى آخر. «الأطلسي» أطلق أمس عملية انضمام جمهورية الجبل الأسود إليه. المسألة ليست جديدة، والعملية هي تتويج لمسار دام قرابة العقد، لكن في أجواء الاحتقان ردت موسكو بشكل صارم متوعدة بالانتقام. الجبل الأسود دولة صغيرة، لا يصل عدد سكانها حتى إلى مليون نسمة، لذا لن تشكل إضافة استراتيجية للحلف. لكنها في النهاية كانت تدور في فضاء النفوذ الروسي، إذ كانت جزءاً من صربيا، الحليف التقليدي لموسكو، حتى إجراء استفتاء الانفصال عام 2006، حينما تمّ إقراره بغالبية بسيطة وصلت نحو 55 في المئة. إطلاق عملية الانضمام يعني سلسلة من مراقبة الإصلاحات وتلبية شروط كثيرة، لكنه في النهاية ضمانة أن المقعد الـ 29 بات محجوزاً داخل «الناتو».
موسكو ستبقى تردد أن كل استراتيجية التوسع شرقاً مرفوضة وتهديدٌ للأمن القومي الروسي. واشنطن ستبقى تردد بأن الحلف ليس ضد روسيا وإنه فقط «دفاعي». من هذين التقييمين المتصادمين، تصير القاعدة هي الحديث بلغة القوة: احتكاك ومماحكات ومضايقات وخروقات، ثم حروب بالوكالة حيثما تصير إدارة الخلاف والتنافس مستعصية.
كيري: نقيم مع تركيا «منطقة مغلقة» في شمال سوريا
0