يُعاني المُجتمع اللبناني من ظواهر لافتة، موجودة في غيره من المُجتمعات، لكنّها مُظهّرة بشكل باهر جداً في لبنان. ومن هذه الظواهر إدعاء فئة كبيرة من المُواطنين الثراء، والتصرّف بشكل مُتشاوف ومتعالي في المُجتمع، علماً أنّه غالباً ما يكون نمط العَيش المُمارس من قبل هذه الفئة بالتحديد لا يعكس قُدراتها المالية الفعليّة ولا واقعها المادي الصحيح، حيث أنّ ما تعيشه من بَهْوَرَة على الآخرين ناجم من دُيون تُرهق كاهلها وتقضّ مضجعها. فالمنزل الفخم بالتقسيط، والسيارة العصريّة واللافتة للنظر بالتقسيط أيضاً، والفرش والمُقتنيات الداخلية بالتقسيط كذلك الأمر، إلخ. ومسألة التشاوف غير المُبرّر إطلاقاً لا تنطبق على فئة مُجتمعيّة دون سواها، بل هي نمط حياة تتبعه هذه الفئة من الناس بغض النظر عن راتبها الشهري، بحيث أنّه كلّما زادت الأموال التي تكسبها كلّما زادت فخامة مُقتنياتها، وبالتالي كلّما زاد دخلها زادت دُيونها في المُقابل. وإذا كان صحيحاً أنّ ما إصطُلح على تسميته “العالم الإستهلاكي” يدفع الناس عُموماً إلى شراء ما ليس لها حاجة فعليّة إليه، فقط بهدف أن تعيش حياة الرفاهيّة، فإنّ الأصحّ أنّ المُبالغة في هذا الأمر، يُجرّد مفهوم الرفاهيّة من مضمونه، بحيث أنّه بدلاً من أن يُصبح الدخل المُرتفع مصدر راحة نفسيّة للشخص المَعني، يَتحوّل إلى حافز خفّي لمزيد من عمليّات الشراء بمُوازاة رفع قيمة التسديدات الشهريّة، وبالتالي إلى دافع لا إرادي نحو مزيد من التشاوف والتكبّر بموازاة المزيد من الغرق الفعلي في الديون!
وعلى خطّ مُواز، وفي ظاهرة أخرى نقيضة لتلك المذكورة أعلاه، تُوجد فئة أخرى من اللبنانيّين، تكسب مبالغ شهريّة كبيرة تسمح لها بعيش حياة الأثرياء فعلياً، ومن دون هُموم التقسيط وإستحقاقات المصارف المَدينة، لكنّها تتمَسكن وتدّعي الفقر، وتُقلّ بالكلام عن مداخيلها وأوضاعها المالية تجنّباً للفت الأنظار إليها. وهي لا تعيش نمط حياة يعكس واقعها المالي الحقيقي، حيث تكتفي بما هو ضروري من ثياب ومن مُقتنيات شخصيّة، ولا تتباهى بمشاويرها الترفيهيّة، وتُحاول أن تُخفي رحلاتها وأسفارها. وغالباً ما تفاجئ هذه الفئة معارفها والمُحيطين بها بخطوات غير مُتوقّعة، كشراء سيارة فاخرة أو منزل جديد نقداً على سبيل المثال لا الحصر.
وبين مَن يُطبّق مَقولة “صيت الغنى ولا صيت الفُقر”، ومَن يُردّد عبارة “كَتّر خير الله، مَستورة” ليل نهار، فارق كبير يعود بحسب تفسيرات علم النفس، إلى الطبع الشخصي للفرد المَعني. فالفئة المُتشاوفة حتى لو كانت غارقة بالديون، تُعاني من عقدة التفوّق وهي تعتبر نفسها أهمّ من بقيّة الناس وأنّها تستحقّ أن تكون بموقع مُتقدّم عنهم في مُختلف الميادين، وما مُحاولتها رفع مستواها الإجتماعي عن الآخرين حتى لو تحت وطأة الدُيون الضاغطة، إلا سعياً لترجمة هذا الوهم على أرض الواقع. في المُقابل، إنّ الفئة المُتمَسكنة حتى لو كانت مُتخمة بالأموال، فهي تُعاني من عقدة أخرى، تتمثّل في خوفها الدائم من أن تكون عُرضة للحسد من الآخرين، وباعتقادها أنّ من شأن هذا الأمر أن ينعكس سلباً على أوضاعها. وفي الحالين، تُوجد حالة مرضيّة نفسيّة، بغضّ النظر عن الفوارق الشاسعة والخلفيّات المُختلفة بين الفئتين المذكورتين.
وفي الختام، لا بُدّ من الإشارة إلى أنّه من الطبيعي أن يسعى كل فرد في المُجتمع إلى تحسين وضعه المادي والإجتماعي، وإلى رفع مُستوى الحياة المُؤمّنة له ولعائلته، وإلى محاولة التمتّع بما تُقدّمه هذه الدنيا من رفاهيّة، ومن لا يفعل ذلك إنطلاقاً من مبدأ “القناعة كنز لا يفنى” يسقط تلقائياً في حال من الخمول والكسل. لكنّ السعي للأفضل شيء، والسُقوط في هُوّة حبّ الظهور والتعالي والتشاوف، ولو تحت وطأة الديون، شيء آخر تماماً، خاصة وأنّه غالباً ما يترافق مع كثير من الغرور المزعج والإدعاءات الفارغة والتصنّع المُزيّف. ومن الطبيعي أيضاً أن يحرص الفرد على تحصين نفسه من عُيون وألسن الناس المُتطفّلين، لكنّ الذهاب بعيداً في إدعاء الفقر وفي تزوير الوقائع بحجة ردّ الحسد لا يعكس سوى مُعتقدات مُضحكة وقلّة ثقة كبيرة بالنفس. وفي كلّ الأحوال، الناس أحرار في إختيار أنماط حياتهم وتصرّفاتهم، لكنّ على المَديُونين المُتشاوفين والأغنياء المُتمسكِنين، أن يعلموا أنّ الكثير من الناس يعرفونهم على حقيقتهم ويشمئزّون من تصرفاتهم المُدّعية، أكانت فقراً أو ثراءً!
ناجي س. البستاني – خاص النشرة