لو أن الحاضر رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو، لكان تحدث مجدداً عن «رعاية الله» الحصرية لتركيا هذه الأيام، وكيف أن مشيئتَه هي التي وقتت لحظة التقارب الكبيرة مع الاتحاد الأوروبي. لكن وزراءه كانوا أقل فانتازية، ولو أنهم واظبوا على لعب الأدوارذاتها في فيلم الوداد مع أوروبا والتحديات الجامعة.
هذا الفيلم شهد إعادة إحياءٍ لعملية انضمام تركيا إلى التكتل، عبر فتح فصل جديد في المفاوضات بينهما. أما ما لا يقوله شريط التصريحات المصاحب له، فهو أن فصلاً كبيراً من النفاق والابتزاز فُتح رسمياً أمس.
بات واضحاً أن أنقرة صارت تكتم على أنفاس الأوروبيين. تسلط عليهم سيل اللجوء وتمسك حدوداً يعبرُها تهديد «الجهاديين». هذه المعادلة ستحكم السياسة الخارجية الأوروبية ما دامت الورقتان لا تزالان صالحتين للعب، لتكون مصلحة تركيا إدامة تلك الصلاحية حتى تحصيل أقصى ثمن ممكن.
لم يعد الأوروبيون راغبين في التعليق حتى على قضايا ومفارقات أكبر بكثير من أن يجري حجبها. لم يكن اتضح بعد مصير التأزم بين أنقرة وبغداد، حينما كان الوزراء الأتراك ينضمون إلى اجتماع وزراء الخارجية الأوروبيين في بروكسل.
السلطات التركية كانت تعلن تحريك قوافل عسكرية، أكثر من دزينة عربات مصفحة، من محيط بلدة بعشيقة، على أبواب الموصل، بعدما ملأ صراخ بغداد المعترض الساحة الدولية.
قلةٌ شحيحة بين الوزراء الأوروبيين حاولت لمس جوهر خلاف لا يبدو صغيراً. وزير خارجية لوكسمبورغ جون أسلبورن عائدٌ لتوه من زيارة العراق، كما أنه كان مفاوضاً رئيساً مع أنقرة لأن بلاده تتولى الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي. حينما سألته «السفير» عن رأيه بالخلاف، لمس عصباً حساساً بالحديث عن مخاوف من تقسيم طائفي لا يراه في مصلحة البلد الغارق في الفوضى والتدخل الدولي.
قال أسلبورن إنه «يجب تجنب أن تصبح البلاد عبارة عن سنستان وشيعستان وكردستان، يجب الحفاظ على وحدة العراق لأنها القضية الأولى»، قبل أن يلفت إلى وجهة جوهر النقاش مع الأتراك: «أعتقد أن الموصل مكان هام للغاية لوحدة العراق، ولا أرى مجالاً إلا بالتعاون مع الجيش النظامي، وبالتأكيد مع البشمركة أيضاً. إذاً من المهم للغاية تقديم كل المساعدة التي يحتاجها العراق، والقوى الفاعلة هناك، ولكن العراقيين يقررون بأنفسهم ما الذي يريدونه في بلادهم».
أنقرة صارت تكرر مؤخراً حرصها على «حقوق السُنة»، مقدمةً نفسها كحامية. ولكن لا يوجد ما يبدد الشكوك، خصوصاً حينما يصير الأتراك عاجزين عن تقديم أي إجابة منطقية على السؤال المنطقي: إذا كانت نيتهم دعم حكومة العراق، بطلب منها، لماذا لا يسحبون قواتهم المرفوضة منها وينهون القضية؟
السؤال طرحته «السفير» على وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، خلال وصوله للاجتماع الأوروبي. ردّ كأن الحديث يدور حول شجار منزلي: «إننا نقوم بأقصى ما في وسعنا للتغلب على كل قضية مع إخوتنا العراقيين، لا تقلقوا حول ذلك»، قبل أن يضيف «لدينا حوار جيد مع العراق، ومجموعاتنا هناك لتدريب القوات ضد داعش ببساطة شديدة».
لم يكن هناك أكبر من ابتزاز أنقرة، بالنسبة للاجئين والتهديد الإرهابي، سوى نفاق الأوروبيين الصريح. لطالما تحدثوا عن أن أي دعم للعراق يجب أن يتم عبر حكومتها المركزية، لكنهم رددوا خطاب تبرئة ساحة أنقرة، كما تلته أمامهم، برغم أنه خطاب يقرّ بانتهاك تلك القاعدة الأساسية. قال لهم نظيرهم التركي إن بلاده أرسلت القوات الأخيرة بطلب من حكومة إقليم كردستان، مقرّاً ضمناً بمشروعية اعتراض بغداد، من دون أن يجد نفسه مضطراً لتوضيح سبب تجاوزه الحكومة العراقية مرة واحدة.
أكثر من سعوا لتبييض صورة أنقرة كانوا وزراء حكومات تتخذ نهجاً متشدداً من وقف تدفقات اللاجئين. سألت «السفير» ميروسلاف لاجاك، وزير خارجية سلوفاكيا، عن رأيه بالتوضيحات التي قدمتها لهم أنقرة، فاكتفى بنقل روايتها: «القوات التركية موجودة بدعوة من الحكومة العراقية، لكن قوات إضافية ذهبت هناك لحماية المدربين» الأتراك.
بعض الحاضرين على الطاولة، كشفوا أن من رددوا تلك الرواية لم يحابوا أنقرة فقط، بل اقتطعوا منها ما يمنع إدانتها. رداً على السؤال ذاته، قال وزير الخارجية البولندي فيتولد فاشيكوفسكسي لـ «السفير»: «الوزير التركي شرح لنا أن تدخلهم العسكري كان بدعوة من سلطات عراقية في شمال العراق (حكومة إقليم كرستان)، لدعم وحماية المدربين الأتراك الذين يدربون قوات البشمركة وقوى أخرى تقاتل داعش». لكن مهلاً، حدة التوتر واضحة، فهل يقتنع الوزير بذلك؟ يجيب «فهمي هو أن هناك بعض الفئات داخل العراق التي تقاتل بعضها البعض، وبعض هذه الفئات مدعومة من دول خارجية، وهذا ربما سبب التوترات».
حينما جلس رئيس الوزراء التركي على طاولة زعماء الاتحاد الأوروبي، لعقد صفقة مطلوبة بشدة حول ورقة اللاجئين، قال كلاماً ربما لم يسبقه إليه أحد هناك. كأنه يقرأ صلاةً سياسية، قال لـ 28 زعيماً أوروبياً: «نحن لم نختر هذا التوقيت (لإحياء عملية الانضمام)، لم نخطط لذلك، مشيئة الله هي مَن اختارت لنا هذا الوقيت». كان كلاماً غاية في الغرابة، فالجميع، الناس والإعلام والسياسيون، كل أحد في تركيا وأوروبا والعالم، يدرك أن تركيا فتحت سيل اللجوء للحصول على مكاسب سياسية.
ذلك المنطق الثنائي، في الابتزاز والنفاق، يشرح مصدر ديبلوماسي أوروبي لـ «السفير» أنه من الأفضل الاعتياد عليه لأنه سيتكرر طويلاً. موضحاً خلاصة المداولات التي جرت، يقول المصدر إن «الحقيقة هي أننا في حاجة لتركيا، إننا الآن نذهب إليهم ونرجوهم أن يساعدونا لحل أزمة المهاجرين، هذا وضع غير مسبوق، من دون مساعدتهم، الحل مستحيل، وحتى مع مساعدتهم هناك تشاؤم ثقيل بإمكانية حل هذه الأزمة»، قبل أن يضيف «لديهم الآن اليد العليا وموقف تفاوضي ممتاز، نحتاج منهم مطالب طارئة، لكن حاجتهم منا هي على المدى الطويل، لذلك ما دام الوضع كذلك فيجب عدم انتظار أي انتقادات جدية من الاتحاد الاوروبي لتركيا».
وسط تلويحها بورقة اللاجئين، وإمساكها بحدود يمر عبرها تهديد «الجهاديين»، فتحت أنقرة وبروكسل فصلاً جديداً في مفاوضات الانضمام. فصل السياسة النقدية والاقتصادية هو الخامس عشر الذي تم فتحه، من أصل 35 هي مجمل العملية. المفاوضات بدأت في العام 2005، وكانت متجمدة لسنتين، قبل أن يحييها ابتزاز تركيا. وزراؤها تحدثوا عن تحديات «مشتركة»، منها «المهاجرون غير الشرعيين». ابتساماتهم العريضة، الممتلئة بالرضى، أظهرت أنهم باتوا يعرفون تماماً كيف يمكنهم مداواة النفاق الأوروبي، حول الحقوق والمبادئ، مع تكبيدهم خسائر جعلِه فضائحياً.
ابتزاز ونفاق بين تركيا وأوروبا: إنها مشيئة الله!
0