ايلي الفرزلي: السفير
إما هي دولة أو ليست كذلك. لكن لا يجوز أن يستمر البلد في منزلة وسط ما بين الدولة والمزرعة، كما يحصل حالياً: لا تترك الطبقة السياسية فرصة إلا وتقضم من الدولة لمصلحة مزارعها، لكنها لا تزال تحتفظ بخطاب علني ينادي بالدولة وبمؤسساتها.
كيف يمكن إسقاط هذه المعادلة على الانتخابات البلدية؟ من مصلحة اللبنانيين اليوم تصديق ما يقوله السياسيون. وبشكل أدق، من مصلحتهم أن «يلحقوا الكذاب على باب الدار»، متغاضين عمداً عن كل ما يقوض هذه النظرة من إثباتات لا تعدّ ولا تحصى، من سنتي الفراغ في رئاسة الجمهورية إلى التمديدين النيابيين، فالتمديدين لقائد الجيش، وصولاً إلى عشرات الوظائف الشاغرة، وقبلها عشر سنوات من الصرف من دون موازنات، ناهيك عن سلسلة رتب ورواتب لا تجد من يموّلها برغم الهدر والفساد في كل زوايا ما تبقى من دولة.
وإذا كانت مصلحة السياسيين تقتضي تثبيت «دستور البازار»، فإن مصلحة اللبنانيين تبقى في تثبيت القاعدة الدستورية المتعلقة بدورية الانتخابات، برغم كسرها في العامين 2013 و2014.
وإذا كانت الانتخابات الرئاسية ما زالت متعذرة، وإذا كان الفشل قد استحكم بالسلطة، بدليل التخبط منذ ستة أشهر في النفايات، فإن الانتخابات البلدية تبدو الفرصة الأخيرة للحفاظ على ماء الوجه، خصوصاً أن الإدارات المحلية يفترض أن تكون في منأى عن هذه الصراعات، بحيث يصار إلى تجديد التفويض الشعبي، إنقاذاً لما تبقى من نسائم الديموقراطية اللبنانية التي لا يفترض أن تخضع لمزاج السياسيين أو لمصالحهم، على ما أوحى رئيس الحكومة تمام سلام، الذي قال جهاراً إن قرار إجرائها «رهن توافق السياسيين»، فيما ذهب الرئيس نبيه بري أبعد من ذلك بالقول إن التمديد للبلديات يحتاج الى قانون وهو ليس مستعداً لتحمل كلفة هذا الخيار «ويكفيني ما تحملته من أوزار التمديد للمجلس بعدما كاد الكل يتنصل ويريد أن يحملني وحدي مسؤولية ما حصل».
وبعيداً عما تردد من أخبار تتعلق بعدم حماسة هذا الفريق أو ذاك للانتخابات، إما لكون استطلاعات الرأي تظهره خاسراً في بعض المدن أو لكون الانتخابات ليست أولوية في زمن الحرب، إلا أن الواقع أن كل الأطراف أكدت في العلن على إجراء الانتخابات. وقد حسمها وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق بقوله لـ «السفير»، ليل أمس، إن «كل القوى السياسية موافقة علناً، لا بل بعضها متحمس جداً للانتخابات». كما كرر قوله إن «الوزارة جاهزة لإجراء الانتخابات في مواعيدها الدستورية»، جازماً أن «لا تأجيل للانتخابات ولا تمديد للمجالس البلدية الحالية»، داعياً الجميع إلى الاستعداد لها وإلى التصرف على أساس أن الانتخابات واقعة حتماً.
وبالرغم من الأجواء الإيجابية التي يبثها مختلف الأفرقاء، إلا أن تجربة تعامل أقطاب السلطة مع الانتخابات النيابية ما زالت حاضرة، حيث تشهد مواقف الجميع أنهم كانوا من أشد المدافعين عن إجرائها في مواعيدها، قبل أن يتراجعوا ويهدد بعضهم بالمقاطعة إذا ما أجريت.
ما الضمانة إذاً؟
على جاري عادة اللبنانيين وحماستهم الدائمة لـ «كلمة السر الخارجية»، أوحت حركة المبعوثين الديبلوماسيين في بيروت أن ثمة حراكاً دولياً عنوانه ضرورة إجراء الانتخابات البلدية. وقد علمت «السفير» أن سفراء بريطانيا وفرنسا وأميركا وألمانيا وممثليّ الاتحاد الأوروبي والأمين العام للأمم المتحدة قد ألحّوا، أمام معظم المرجعيات الرسمية التي التقوها مؤخراً، على ضرورة إجراء الانتخابات في موعدها «لأنه لا يجوز للممارسة الديموقراطية ومنها الانتخابات البلدية أن تغيب عن بلد عريق بالتقاليد الديموقراطية مثل لبنان».
داخلياً، ولأن المرحلة الأولى من الانتخابات البلدية في جبل لبنان قد أجريت في 2 أيار 2010، فإن الحكومة اللبنانية ملزمة بإجراء الانتخابات في مهلة أقصاها الأول من أيار (يوم أحد) بالنسبة للمرحلة الأولى، على أن يليها إجراء الانتخابات في أيام الآحاد التي تلي في البقاع وبيروت ثم الجنوب والنبطية فالشمال، حيث يفترض أن يكون يوم 29 أيار موعد المرحلة الأخيرة (تنتهي ولاية المجالس البلدية في الشمال في 30 أيار). ولعل أول غيث هذا الاستحقاق، بعد موقف وزير الداخلية الحاسم، إقرار ميزانية الانتخابات، المقدرة بـ31 مليار ليرة، في جلسة مجلس الوزراء المقررة اليوم، على أن يليها دعوة الهيئات الناخبة، في مهلة تتراوح بين شهرين وشهر واحد قبل مواعيد الانتخابات، أي بين الأول من آذار والأول من نيسان. ويُفترض أن يسبق ذلك نشر القوائم الانتخابية ثم تصحيحها.
وإذا كانت وزارة الداخلية هي صاحبة الصلاحية في تحديد موعد دعوة الهيئات الناخبة، فقد علمت «السفير» أنها بصدد إعلان لوائح الشطب ودعوة الهيئات الناخبة في الأول من نيسان المقبل.
ماذا عن المؤشرات السياسية؟
بدا واضحاً منذ أشهر عدة أن المناخ العام يشي باحتمال تأجيل الانتخابات، لكن عنصرين حاسمين داخلياً قطعا الطريق على ذلك، أولهما التفاهم السياسي الذي أُبرم بين قيادتي «حزب الله» وحركة «أمل»، وتمثل باعتماد قاعدة الانتخابات الماضية بينهما في معظم مناطق نفوذهما السياسي ـ الشعبي، أي تكريس قاعدة التوافق في معظم البلديات أو التزكية حيث أمكن لتفادي المعارك الانتخابية.
ثاني العناصر، هو تفاهم العماد ميشال عون ورئيس «القوات» سمير جعجع على اختبار «إعلان النيات» و«التفاهم الرئاسي» بينهما، في جميع المناطق التي يمكن تشكيل ائتلافات انتخابية بين «التيار الوطني الحر» و «القوات اللبنانية»، وهو أمر يبدو أنه قطع شوطاً، فضلاً عن حماسة قواعد الجانبين للسير في هذا الاختبار الأول من نوعه بينهما..
ولا يجوز إغفال الواقع الصعب الذي يعاني منه «تيار المستقبل»، برغم أن معظم قياداته باتت تتصرف على أساس أن الانتخابات حاصلة حتماً، وبالتالي، يجب «إعادة تزييت» الماكينات الانتخابية، خصوصاً في المدن الرئيسية مثل بيروت وطرابلس وصيدا، مع التركيز على كيفية الحفاظ على التوازنات التي لطالما أرساها الرئيس الشهيد رفيق الحريري في العاصمة (12 مقعداً للمسلمين و12 للمسيحيين) وأدارها نهاد المشنوق عندما كان مستشاره السياسي آنذاك، وهذا يتطلب تفادي أي تشطيب يهدد التوازنات الطائفية التاريخية ربطاً بالمزاج المتحرك في بعض «البيئات الطائفية»، على خلفية الحراك الرئاسي الأخير وما أدى إليه من تباعد بين «القوات» و «المستقبل».