قد لا يكون لعملية اغتيال الأسير المحرر عمر نايفة في السفارة الفلسطينية في بلغاريا علاقة «بالتنسيق الأمني» بين السلطة وإسرائيل، لكن الشكوك الناتجة عن استمرار هذا التنسيق تكشف مدى انعدام الثقة بالمؤسسات الفلسطينية، والتخوف من سهولة تجنيد اسرائيلي لعملاء من داخل وخارج السلطة.
لا أريد استباق التحقيقات، خاصة أن الوفد الفلسطيني لتقصّي الحقائق الذي وصل صوفيا يشمل ممثلاً عن «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، الذي كان ينتمي نايفة اليها. لكن الحادثة تجدد أهمية النقاش الجدي والتصعيد السياسي والشعبي بهدف وقف «التنسيق الأمني» ـ الخلية الوحيدة الحية في جثة عملية سلام» ميتة.
إذ إن «التنسيق الأمني» لا يعني فقط تزويد الأجهزة الإسرائيلية بمعلومات، سواء هي تطلبها أو الجانب الفلسطيني المسكون بهوس «اثبات حسن السلوك والجدارة» بقبوله «شريكا» لعملية سلام موهومة، ولا حتى منع عمليات المقاومة فحسب، بل الأخطر هو تشويه وعي الشباب الفلسطيني خاصة داخل حركة «فتح»، الذي يخلط بين المصالح الإسرائيلية ومتطلبات النضال الفلسطيني.
اغتيال فكرة «المقاومة»
فالمقاومة فِكر وفكرة قبل أن تكون ممارسة. وما نشهده هو اغتيال تدريجي لفكرة المقاومة، ليس فقط عن طريق التصفيات الجسدية لجيل جديد من شابات وشبان لا يهابون الجيش الإسرائيلي وأسلحته، بل عبر اقناع او بالأحرى تضليل منهجي يجعل من «التنسيق الأمني» ايدولوجية اجماع وطني، وبالتالي تصبح معارضته معاداة للمصلحة الوطنية الفلسطينية.
لنأخذ مثال ردود الفعل على تصريحات مدير الاستخبارات العسكرية الفلسطينية ماجد فرج لصحيفة «أخبار الدفاع» (Defense News الأميركية)، في كانون الأول الماضي، بأن جهازه «أحبط 200 عملية ضد إسرائيل» خلال مدة شهرين قبل تاريخ المقابلة، إذ نرى أن جهات فتحاوية عديدة اتهمت كل من انتقد او استهجن ادعاءات فرج بالتطاول على الحركة وبالعمالة لإحدى اجهزة الاستخبارات العربية.
بل وخرجت عناصر من حركة «فتح»، وللأسف من «كتائب الأقصى»، الى الشوارع، خاصة في نابلس وجنين، في حفل اطلاق نار في الهواء تهديداً لكل من يجرؤ على طرح تساؤلات حول اللواء فرج أو جهازه. قد يجد البعض أن ذلك طبيعياً، اذ يمكن تنظيم ذلك بأوامر أو ضخ أموال. لكن الحملة شارك فيها عدد من افضل وأشجع الأسرى السابقين ومُطارَدي الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
المشكلة الأساسية ليست بربط هؤلاء بوظائف السلطة. إذ إن اكثرهم ليس له خيار آخر. بل اضافة الى ذلك ونتيجة له، خُلق وعي جديد مفاده «أن الإجراءات الأمنية الفلسطينية ضرورة وطنية للحفاظ على مقاومة سلمية، وإنقاذ للأرواح الفلسطينية، ولعدم اعطاء مبرر لإسرائيل لاجتياح الضفة كما فعلت في العام 2002».
قبل تفنيد هذه التبريرات نعود الى تصريحات فرج المشينة بل وغير الصحيحة. إذا إن أغلب هذه «العمليات» تشمل منع متظاهرين، بما في ذلك الأطفال منهم، من الوصول إلى الحواجز العسكرية، أو استدعاء أو حبس شباب بعد إعلان امنياتهم بالاستشهاد دفاعاً عن فلسطين على صفحاتهم على «فيسبوك»، وفقاً لمسؤول مُطَّلِع في «منظمة التحرير الفلسطينية».
لكن فرج اختار ان يبعث برسالة إلى الأميركيين والإسرائيليين الذين كانوا يشَيعون وقتها أن السلطة على وشك الانهيار، بهدف حثّها على اتخاذ خطوات أكثر فعالية وقمعية، وسط تزايد عمليات المقاومة الفردية ضد الجنود والمستوطنين منذ اندلاع الهبة الشعبية في تشرين الأول الماضي.
عليه، قام فرج بتصوير الضفة الغربية وكأنها مجموعة قواعد عسكرية مزودة بأحدث الأسلحة، للقارئ الأميركي، مستهتراً بسجله وهو الأسير السابق، وبحياة والده الذي اغتاله الإسرائيليون لأنه تحدى منع التجول في العام 2002 لشراء الخبز لعائلته. لكن فرج اختار تعزيز موقعه الشخصي، فأصبح كما أفادت «النيويورك تايمز» في تقرير لها أمس الأحد، من أهم المرشحين لخلافة الرئيس الفلسطيني محمود عباس «الموثوق به أميركياً وإسرائيلياً».
تبرير التنسيق الأمني
أما التبريرات التي يسوقها شباب وكهول من حركة «فتح» والسلطة وبعض النخب، لاستمرار «التنسيق الأمني»، فغير صادقة على اقل تقدير؛ بداية، فإن السلطة الفلسطينية لا تدعم بشكل منهجي لا «الهبّة الفلسطينية»، بل تساهم في منعها من التطور الى انتفاضة شاملة، ولا أي وسيلة للنضال السلمي من حركة المقاطعة التي تُحارَب دولياً، الى إبداء جدية في ملاحقة ملفات «حرب غزة» والمستوطنات بعدما وضعتها هي نفسها امام محكمة الجنايات الدولية. بل تستعملها كأوراق لعبة تحركها ببطء أو تجمّدها لإثبات وجودها لأسياد واشنطن.
نعم هناك نقاش نقدي مشروع لتداعيات الزج بالكفاح المسلح خلال الانتفاضة الثانية. لكن الانقياد الى تجريم الكفاح المسلح، ولو معنوياً، مرفوض. فالمقاومة المسلحة مشروعة ليس وفقا لأبجديات حركات التحرر الوطنية في التاريخ، لكن أيضا وفقاً لميثاق للأمم المتحدة الذي شرّعَ كل أشكال المقاومة من دون استثناء ضد احتلال عسكري لأي أرض او شعب، بغض النظر عن هوية الجهة المحتلة والشعب الرازح تحت الاحتلال.
القرار الخاص بشكل المقاومة يقرره الشعب الفلسطيني وحده، بحسب ظروف ومتطلبات المرحلة، أما اخضاعه لمقاييس «التنسيق الأمني» مع الأجهزة الإسرائيلية فجريمة وطنية، علماً بأن هذه المعايير تتغير وفقا لمزاجية إسرائيلية تعتبر كل كلمة ولوحة وبرنامج تلفزيون وأغنية تُعبّر عن تاريخ فلسطين أو تراثه ممارسة تحريضية «على الإرهاب» يجب القضاء عليها.
إحدى الإشكاليات في الجدل حول «التنسيق الأمني» أنه يضع شرطاً لكل تنقل فلسطيني رسمي أو غير رسمي، بما في ذلك الرئيس نفسه، إذ يستوجب الحصول على موافقة قد يتم الغاؤها عند أي حاجز عسكري. أي أن وقف التنسيق يجب أن يكون ضمن خطة استراتيجية، لكن حالياً لا يوجد أي تخطيط ولا حتى نيّة حقيقية لإنهاء التنسيق، بل استسلام رسمي شبه كامل له.
«وقاحة» طلب التهدئة
مسؤول أوروبي التقيتة في عمان مؤخرا قال إنه لا توجد نية آنية لتحريك «عملية السلام»، بل ثمة رغبة بالحفاظ على الوضع القائم بين الطرفين، وجوهر ذلك في العُرف الأميركي هو استمرار «التنسيق الأمني» غير المقدس، والطلب من السلطة « التهدئة، تماماً كما أعلن وزير الخارجية الأميركي جون كيري بعد لقائه مع عباس الأسبوع الفائت في عمان.
وقاحة كيري بدعوة الفلسطينيين الى «التهدئة» وكأن هناك جيش فلسطيني احتلالي يقوم بالتنكيل بالإسرائيليين، تعكس توقع الإدارة الأميركية أن تقوم السلطة بالوظيفة الوحيدة المعترف بها أميركياً، اي قمع الانتفاضة الفلسطينية والفلسطينيين. لذا لم يكن غريباً ان تثار الشكوك حول ظروف مقتل الأسير السابق المطلوب اسرائيلياً عمر نايفة في حديقة السفارة الفلسطينية في صوفيا.
إذ حتى لو اتضح أن السلطة لا ذنب لها في ظروف موته غير فشلها الذريع بالعناية به، فإلغاء «التنسيق الأمني» أولية وطنية. فقد حوّل أكثر المناضلين الى مدافعين، بوعي او غير وعي، عن جلادهم، وجلب مخاطر تشويه الوعي وغرَس نفسية الهزيمة، وإن كان ذلك يفشل في اخضاع الشعب الفلسطيني، لأن كل جيل يولد وينشأ تحت الاحتلال، ينتفض ويثور ويكمل المسيرة.