وقائع ما قبل «التفجير السياسي» لـ«لبنان والمهجر»

لا تعليق
آخر الأخبارمحلية
2
0
تفجير فردان

كتب المحرر السياسي :
إذا كانت «رسالة» تفجير «بنك لبنان والمهجر»، وهي فتنوية بامتياز، تطال عموما كل لبنان وقطاعه المصرفي.. وتطال خصوصا «حزب الله»، عبر محاولة استثمار الاشتباك السياسي العلني القائم بينه وبين مجموعة مصارف اتهمها بالمبالغة في تطبيق القانون المالي الأميركي، فان ردود الفعل اللبنانية، ولا سيما السياسية والمصرفية، اتسمت بمسؤولية وطنية عالية جعلت «الرسالة» تعطي مفعولا ايجابيا بعكس غاية المخطط والمنفذ أو من «تبرع» بإصدار الأحكام، من أهل السياسة والاقتصاد والإعلام.
واعتبارا من اللحظة التي سمع فيها دوي الانفجار، بدا أن الجميع استشعر الخطر الداهم، خصوصا أن «الحرب الأميركية الناعمة» ما زالت في بدايتها، وثمة فصول منها ستتكشف في المرحلة المقبلة، وتزيد من حجم التحديات المحدقة بالقطاع المصرفي على وجه التحديد.
ولقد جاءت اجتماعات الأمس في جمعية المصارف والمصرف المركزي والسرايا الكبيرة، وما رافقها من مشاورات على أعلى المستويات، خصوصا بين قيادة «حزب الله» وحاكمية المصرف المركزي، لتبين أن لبنان على عتبة مرحلة جديدة من التعامل مع القانون المالي الأميركي الموجه ضد «حزب الله»، يفترض أن ترتسم خلالها حدود الأدوار والصلاحيات وتتبلور المعايير، على قاعدة أولوية الحفاظ على الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي.
هذا الواقع الجديد، لا يعفي الجميع من مراجعة نقدية، خصوصا في ظل أداء غلب عليه غياب الرؤية الاستراتيجية من جميع الأطراف المعنية.

الحكومة.. أول المقصرين
ولعل أول المقصرين في هذا المجال هو الحكومة اللبنانية، فالقانون الأميركي وضع على النار في العام 2014، ولطالما أرسل سفير لبنان السابق في واشنطن أنطوان شديد برقيات ديبلوماسية الى وزارة الخارجية اللبنانية يعرض فيها كيفية تطور الموقف في المؤسسات الأميركية، لكن المؤسف أن مصيرها كان الرمي في الأدراج من دون ادراك أبعاد اتهام حزب لبناني وازن ممثل في الحكومة ومجلس النواب، بتهم خطيرة كالتي وجهت اليه.
ولا يبرر الفراغ الرئاسي أبدا أية محاولة للتنصل من تحمل المسؤولية ولو بحدها الأدنى، فقد كان الأجدر بالحكومة أن تبادر وتقتحم.. وأن يتوجه رئيسها وكل الوزراء أصحاب الاختصاص الى العاصمة الأميركية لتحذير الادارة الأميركية من مخاطر هذا التصنيف السياسي لفئة لبنانية عبر وسمها بـ «الارهاب» ومحاولة عزلها، ومن ارتدادات ذلك على السلم الأهلي.
ظلت الحكومة مكتوفة اليدين حتى صدر القانون الأميركي، فقررت أن ترسل وزير المال علي حسن خليل الذي بدا أنه في قراره بزيارة واشنطن انما كان يلتزم بقرار مرجعيته السياسية (رئيس مجلس النواب)، مكملا المهمة التي قام بها الوفد النيابي برئاسة ياسين جابر، وهما زيارتان متأخرتان لا أحد ينتقص منهما، لكن كان الأجدر أن يحصلا قبل ذلك بكثير، مثلما ينبغي القول اليوم أنه لم يعد مسموحا ترك اللوبي الاسرائيلي ـ الاماراتي ـ السعودي، يسرح ويمرح وحده على «المسرح الأميركي» في المرحلة المقبلة.
ولعل اجتماع الأمس في السرايا برئاسة رئيس الحكومة تمام سلام وحضور وزير المال وحاكم المصرف المركزي رياض سلامة ورئيس جمعية المصارف جوزف طربيه يؤسس لمناقشة استثنائية لهذا الملف في جلسة الحكومة المقررة الخميس المقبل، يصار بعدها الى تكليف الوزراء المعنيين بالتواصل الدائم مع السلطات الأميركية، من زاوية تأكيد احترام لبنان للقوانين الأميركية طالما أننا نعيش في زمن «الدولرة»، ولكن في الوقت نفسه، مطالبة الأميركيين باحترام السيادة اللبنانية عبر تحديد المرجعيات المعنية والمعايير التي لا يمكن القفز فوقها.

هل قصّر سلامة والمصارف؟
هذا هو الحاجز الأول (السلطة السياسية) الذي فرط به اللبنانيون منذ سنتين، وأفسح أمام تضخم أدوار حاكمية مصرف لبنان المركزي وجمعية المصارف، من دون الانتقاص من الدور الذي لعبه هؤلاء بالتحذير المبكر والمتكرر من أبعاد ما يحضر في المطابخ الأميركية للبنان، وذلك في محاولة صادقة من هؤلاء لتعويض النقص الناجم عن الفراغ المخيف في السلطة السياسية.
وهنا يسجل لهؤلاء أنهم نجحوا في إدخال تعديلات على القانون الأميركي، بحيث حذفوا اسم لبنان الذي كان يريد الإسرائيليون جعله يدفع أثمان احتضانه لمقاومة «حزب الله» التي أسست للتحرير في العام ألفين، ولهزيمة مشروع «الشرق الأوسط الجديد» في تموز 2006.
كان ينبغي أن تتوقف مراجعات المصارف عند هذا الحد، خصوصا وأن واشنطن تكون عادة دقيقة الى حد كبير بعدم تجاوز الهرمية المتبعة في حالة القانون المالي الخاص بـ «حزب الله» وكل ما عداه وخصوصا لوائح «الأوفاك». فقد درجت العادة عند وضع الأميركيين أي اسم على «لائحتهم السوداء» (بالاشتباه أو اليقين أو الاستخدام السياسي)، أن يبادروا إلى ارسال الاسم حصرا الى هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان (رئيسها رياض سلامة)، وهذه الآلية تسري على دول أخرى وليس فقط الولايات المتحدة.
وبعد ذلك تبادر هيئة التحقيق الخاصة الى سؤال المصارف عن الحسابات، آخذة في الاعتبار أن قانون السرية المصرفية (طبعا مع الاستثناءات التي حددتها القوانين وآخرها القانون 308 الذي أقره مجلس النواب في العام 2015)، يحظر على البنوك تقديم معلومات عن أي حساب لديها لأي جهة مصرفية دولية، الا من خلال السلطة التي تخضع لها، أي مصرف لبنان المركزي. وحسب جهات مصرفية واسعة الاطلاع، فان الأميركيين لم يبادروا ولا مرة للتواصل المباشر مع أي مصرف الا من خلال هيئة التحقيق الخاصة، لكن حماسة بعض المصارف اللبنانية الكبرى، جعلتها في أحيان كثيرة، تبادر وتتبرع.. وصولا الى «استباق» اللوائح الأميركية بطريقة استنسابية، عبر اقفال حسابات وزراء ونواب وغيرهم، من دون أن يقلّل ذلك من أدوارها التي أدت الى «تلطيف» القانون الأميركي من وجهة نظرها.

ماذا عن مسؤولية «حزب الله»؟
يمكن القول أن «حزب الله» ومنذ خريف العام 2014، كان قد وضع في أجواء التشريع الأميركي الذي يستهدفه، والمؤسف أنه حتى الأمس القريب، لم يكن قد كلف خبيرا مصرفيا متخصصا بدرس البعد التقني، وعندما أصبح القانون أمرا واقعا، قرر أن يؤلف لجنة يغلب عليها الطابع السياسي بدراسة الملف، وهذا الأمر عطّل أية فرصة أمام حوار سياسي وتقني يؤدي الى حصر الأضرار.. الى أن صدرت المراسيم التطبيقية للقانون الأميركي في منتصف نيسان المنصرم، وصدر بعدها تعميم رياض سلامة الذي طالب المصارف بالتقيد به من دون أن يضع للمصارف حدودا ملزمة استنادا الى صلاحياته.
عند هذا الحد ثارت ثائرة الحزب، وصدر البيان الأول لـ «كتلة الوفاء» بكل ما تضمنه من عبارات جعلت رياض سلامة يعيد النظر بالآليات التقنية، خصوصا وأنه كان قد خاض على مدى أسابيع حوارا مع اللجنة المعنية في «حزب الله»، وتم التفاهم على عدد من النقاط جوهرها الأساس التوفيق بين متطلبات هذه المراسيم التطبيقية وبين ضرورات عدم التوسع المفرط في تنفيذها، بحيث تحصر صلاحية اقفال أي حساب بهيئة التحقيق الخاصة، فضلا عن استثناء التداول بالعملة الوطنية (الليرة) من أي قانون أجنبي.
أمكن للحوار المباشر بين سلامة و «حزب الله»، بدفع من وسطاء موثوقين لدى الطرفين، تجاوز المطب الأول، باصدار التعميم الثاني الذي أعاد تصويب الأمور، وخصوصا وضع مهلة ثلاثين يوما تدرس خلالها هيئة التحقيق الخاصة ملف اقفال أي حساب على أن يكون قرارها، سلبا أو ايجابا، ملزما للمصارف.
واذا كان «حزب الله» قد أخذ على سلامة أنه لم يلتزم بتنفيذ باقي بنود الاتفاق وخصوصا بند المفعول الرجعي، بحيث تعود المصارف عن قرارات اتخذتها بإقفال حسابات من دون العودة للمصرف المركزي، فان واقع الحال هو أن تعميم سلامة أعطى الحق لأي صاحب حساب مقفل قبل صدور تعميمه، بأن يحاول فتح حساب في مصرف آخر، وعندها لن يكون بمقدور المصرف الثاني أن يقرر إلا بعد العودة إلى مصرف لبنان (هيئة التحقيق الخاصة).

«عبوة الفتنة» في فردان
واذا كانت بعض عبارات سلامة في مقابلته الأخيرة مع «سي ان بي سي» قد اثارت التباسا بين الجانبين، بمعنى هل كان يقصد «حزب الله» في قوله «قلة صغيرة تفسد صورة لبنان» أم جهة ثانية، واستوجبت بالتالي صدور بيان أعنف من البيان الأول عن «كتلة الوفاء»، فان تحرك «الوسطاء» بين الجانبين أدى الى تبادل التوضيحات بينهما وصولا الى التفاهم على فتح صفحة جديدة.. قبل أن يبادر «الظلاميون» الى رمي عبوتهم على المقر الرئيسي لـ «بنك لبنان والمهجر» في فردان ليل أمس الأول!
وهنا يسجل لرئيس مجلس ادارة «لبنان والمهجر» سعد الأزهري، أنه كما بدا متهيبا الموقف، بعد وقوع الانفجار مباشرة، بدعوته الى الابتعاد عن الاتهام السياسي الجاهز، فانه دخل بالروحية نفسها، صباح أمس، الى اجتماع جمعية المصارف، يرافقه والده المصرفي المخضرم نعمان الأزهري، الأمر الذي أكسب الاجتماع بعدا مميزا، خصوصا مع حضور معظم مصرفيي «الصف الأول».

معايير ملزمة.. واطمئنان دولي
واذ اتسم الاجتماع بصراحة متناهية جعلت بعض المصرفيين يطلقون تحذيرات من أن يتحولوا الى «فشة خلق»، مطالبين رياض سلامة بأن يتحمل مسؤولياته وأن يقوم بواجباته، كان رد آخرين، وأبرزهم سمير حنا (بنك عودة) بأنه لا يجوز تحميل سلامة أكثر من قدرته على الاحتمال، «وليس مطلوبا منا سوى الالتزام بالتعاميم الصادرة عن المصرف المركزي».
وبعد تفاهم المجتمعين على بيان تضمن ادانة للتفجير الذي يهدف الى زعزعة الاستقرار الاقتصادي وتأكيدا على الالتزام بالتعاميم الصادرة عن «المركزي»، توجه المجتمعون الى مصرف لبنان وعقدوا اجتماعا مع سلامة الذي عبر عن استنكاره للتفجير وتضامنه مع «لبنان والمهجر»، معتبرا أن الرد على التفجير يكون بالالتزام بالتعاميم الصادرة عن مصرف لبنان، وأعرب عن ارتياحه للاستقرار النقدي الراسخ وقال اننا أمام ثقافة مصرفية جديدة ولا بد من مواجهة متطلباتها، وكشف أمام الحاضرين أن الآليات التي قررها مصرف لبنان لمصلحة لبنان مقبولة من المصارف اللبنانية ومن الخارج.
وحسم المجتمعون «المعايير» في التعامل مع قضية الحسابات وهي الآتية: عدم التعامل مع أي اسم مدرج في لوائح «اوفاك»، على المصارف التنسيق مع لجنة الرقابة على المصارف في ما يتعلق بالحسابات المدينة المطلوب اقفالها، أما الحسابات موضع الشك، فترفع الى هيئة التحقيق الخاصة وهي تقرر الاقفال من عدمه.
وكان لافتا للانتباه طمأنة رياض سلامة الحاضرين أن المناخ الدولي متضامن مع لبنان ولا وجود لأجواء عدائية في الخارج، طالما أننا نلتزم بمتطلبات العمل المصرفي بشفافية، محذرا من وجود جهات تريد الاصطياد في الماء العكر.
وتوج يوم أمس باجتماع في السرايا الكبيرة، حيث أطلع كل من سلامة وجوزف طربيه رئيس الحكومة ووزير المال على مداولات وقرارات الاجتماعين النهاريين في جمعية المصارف ومصرف لبنان، وأبدى المجتمعون ثقتهم بالاجراءات التي يقوم بها المصرف المركزي محلياً ودولياً لحفظ النظام المالي اللبناني وتعزيز مناعته وتثبيت سمعة لبنان المالية. وشدّدوا على وجوب اعتماد الحوار الهادئ والعقلاني في معالجة هذه المسألة الدقيقة، بعيدا عن صخب المنابر، بما يحفظ مصالح جميع اللبنانيين ويحمي موقع لبنان المتقدّم في النظام المالي العالمي .