لم يكن ينقص الساحة الداخلية سوى دخول المصارف على خط «مناطق النزاع» الساخنة حتى تكتمل خريطة التوترات، التي وإن لا تزال محكومة بتوافر استقرار الحدّ الادنى، إلا أنها باتت تعكس هواجس حقيقية من انفلات الوضع الامني والسياسي دفعة واحدة.
خرجت الاجهزة الامنية، مجتمعة، بما يشبه «الانتصار» من استحقاق الانتخابات البلدية. كان يكفي رصد وقوف ضابط برتبة عقيد، والى جانبه عدد من العناصر العسكرية، يحرسون أحد مراكز الاقتراع في بشري التي يفترض أنها كانت ستشهد أهدأ المعارك الانتخابية، حتّى يتبيّن مقدار الجهوزية العسكرية للجيش لمواكبة هذا الاستحقاق «الاهلي بمحلي»، من موقع المؤازرة، ومعلنا بشكل غير مباشر عن استعداده لـ «تغطية» الانتخابات النيابية، مع باقي الاجهزة الامنية، على امتداد الخريطة اللبنانية.
انفجار فردان أضاف معطى جديداً ونوعياً على ساحة الاحتمالات الامنية، وفتح مجدّدا باب التساؤلات حول ما يمكن تمريره أو عدم تمريره من استحقاقات دستورية بات تأجيلها أكثر يدخل في إطار المحرّمات السياسية، على رأسها الانتخابات النيابية. مع التسليم بالمخطط المشكوف لتوريط «حزب الله» في لحظة اشتباكه السياسي والمالي مع القطاع المصرفي.
في الآونة الأخيرة تكثّفت جهود القوة الامنية باتجاه الضغط لكشف المزيد من الشبكات الإرهابية وتفكيك خلاياها الناشطة وتوسيع رقعة التوقيفات. ومنذ تعيينه في موقعه في 2 آذار الماضي، ومباشرته مهامه في العشرين من آذار، تاريخ انتهاء مهام مدير المخابرات السابق العميد أدمون فاضل، حرص مدير المخابرات العميد كميل ضاهر على التصرّف وفق قاعدة «لديّ نحو مدّة سنتين على رأس المديرية وسأفعل اللازم من أجل ترك بصمة، ومواكبة المرحلة الدقيقة بسلسلة إنجازات تخدم مسار المواجهة مع الارهاب، وليس مجرد تقطيع وقت».
لم يطل الوقت لكي يكتشف راصدو العميد ضاهر، ومنتظروه على الكوع، بأنه لم يأت «حصرا» في مهمّة تمهيد الطريق أمام وصول قائد الجيش جان قهوجي الى قصر بعبدا.
وفي الوقت الذي كان خصوم مدير مكتب قائد الجيش السابق وصديقه الشخصي، يتّهمونه بأنه يفضّل تركيز اهتمامه على الطبخة الرئاسية وتوسيع رقعة الـ P.R. مع «مفاتيح» يفترض ان يطبّلوا ويزمّروا من فوائد وصول قهوجي الى قصر بعبدا، كان «المدير» يعطي تعليماته على أكثر من مستوى أمني وعسكري ولوجستي وإعلامي بأن المرحلة أكثر من دقيقة تتطلّب جهوزية عالية وجهدا فوق العادة وانفتاحا بوجه من يجب ان تصل اليه المعلومة بشكل شفّاف من دون أن تؤثّر على سير العمليات وسرّيتها. كل ذلك، وسط قناعة براغماتية لدى مخابرات اليرزة بأن «ليس الاحتكاك مع مختار أو رجل أعمال أو سياسي… ما يصنع رئيس الجمهورية، بل ان الرياح الاقليمية هي التي تحدّد مسار الرئاسة».
وقد أتى توقيف الجيش لخلية «داعشية» في خربة داوود العكارية تأتمر بقيادة خالد سعد الدين، بالتنسيق مع باقي القوى الامنية، من ضمن سلسلة حديدية تستهدف ولا تزال البنى التحتية لخلايا مرتبطة بـ «تنظيم الدولة الاسلامية» عبر عمليات نوعية طالت رؤوسها في لبنان واصطادت عدداً من قياديي «داعش» و «النصرة» في جرود عرسال وعمدت الى الضغط باتجاه تجفيف مواردهما المالية…
وحتّى اللحظة التي وقع فيها انفجار فردان قرب «بنك لبنان والمهجر»، كان الجيش بكامل استنفاره في محاولة لإحباط أي اختراق إرهابي في بيروت وباقي المناطق بالتزامن مع بدء شهر رمضان، فيما الجهود تنصبّ على المزيد من العمليات النوعية والاستباقية في المرحلة اللاحقة.
استهداف المصارف، في سياق «الرسائل» المنفصلة عن الاختراقات الامنية ذات الطابع الإرهابي، كان من ضمن الاحتمالات التي تمّ التداول بها على الطاولة الأمنية. وبرزت تحذيرات من إمكانية دخول طابور خامس على الخط لاستغلال النزاع القائم بين «حزب الله» وعدد من المصارف، مع التسليم بأن الحدّ الأقصى الذي يمكن أن يصل اليه الحزب في تصعيده هو الإيعاز لمودعين كبار بسحب أموالهم من بعض المصارف أو تنظيم تحركات احتجاجية في الشارع.
لكن الرسالة «التفجيرية» برمزيتها أتت خارج السياق المتوقع، وهذا ما يفسّر كلام وزير الداخلية نهاد المشنوق الفوري بأنها «أتت خارج التفجيرات التقليدية»، استطرادا التي كانت القوى الأمنية تتوقّع حدوثها.
وبالرغم من حال الاستنفار الامني في بيروت والمناطق، الذي رافق تحديدا بداية شهر الصوم، فإن الاختراق على مستوى عبوة تكاد لا تتجاوز الستة كيلوغرامات والتي يمكن لأي عابر سبيل أن يضعها في حوض الزهور، والذي تمّ في لحظة التحضّر للإفطار، هو أمر ممكن ومحتمل، خصوصا ان التركيز الأكبر كان على العمليات التي يمكن ان توقع عددا كبيرا من الضحايا والمدنيين.
وإذا كانت العين على «لبنان والمهجر» قد احمرّت أكثر من اللازم على خلفية أزمة قانون العقوبات الاميركي، فإن للمصرف 130 فرعا في المناطق، ونشر عسكر يتطلّب بحدّ ذاته جهدا استثنائيا قد لا يكون متاحا في ظل حمل الجيش تحديدا أثقالا مرهقة تبدأ بعدم إغماض العين، ولو لحظة واحدة، في الجنوب المهدّد بأي لحظة باختراقات اسرائيلية ولا تنتهي بالتهديدات الارهابية بقاعا وشمالا والاستنفار الدائم في مناطق المخيمات والعمل المخابراتي المستمر لكشف الشبكات الإرهابية وتفكيكها… هذا عدا أن «حرس المصارف» إذا قدّر ان يتوسّع خارج إطار العناصر الامنية التي تؤمّنها عادة شركات خاصة، فهو بالتأكيد أمر يتّصل مباشرة بعمل القوى الامنية، على ان تبقى للجيش مهمّة المؤازرة.
وبغضّ النظر عن الجهة الامنية التي أصدرت الوثيقة الامنية التي أشارت الى معلومات عن تخطيط «جبهة النصرة» للقيام بأعمال إرهابية تستهدف منطقة بيروت ـ الحمرا، والتي على أساسها أوعزت بعض السفارات الغربية الى رعاياها بالتنبّه واتخاذ الحيطة، فإن انفجار فردان خارج تماما، كما يفيد المطلعون، عن سياق هذه الوثيقة التحذيرية والروتينية، خصوصا ان عمل «الجبهة» لن يصبّ إلا في إطار إيقاع العدد الاكبر من الضحايا، ولن يتوقف عند حد إيصال الرسائل «الناعمة».
العين الأمنية على ما هو أكبر من «رسالة فردان»
0