في الوقت الذي تسعى أكثر من جهة إلى إنهاء النزاع، تتواصل المُواجهة العنيفة بين الجيش الاسرائيلي ومُقاتلي حركتي “حماس” و”الجهاد” الفلسطينيّتين منذ الثامن من تمّوز حتى اليوم، في ظلّ تباين كبير في تقييم المعركة، بين قائل بأنّ إسرائيل هُزمت شرّ هزيمة، وقائل بأنّه بعيداً عن التصاريح العنجهيّة، الوقائع الميدانية تدلّ على أنّ الخسارة هي بالتأكيد فلسطينيّة. فماذا تقول الأرقام الملموسة بعد مضيّ 23 يوماً على إنطلاق المواجهات (حتى تاريخ إعداد هذا المقال)؟
أوّلاً: على مستوى الخسائر البشريّة، قتل نحو 1,200 فلسطيني، بينهم ما لا يقلّ عن 200 عنصر من المقاومة الفلسطينيّة، وجرح أكثر من 6,700 شخص بين مدني ومقاوم، في مقابل سقوط نحو 60 قتيلاً ونحو 300 جريح في الجانب الإسرائيلي، أغلبيّتهم الساحقة من العسكريّين بين ضابط وجندي(*). وعلى الرغم من أنّ نسبة القتلى هي قتيل إسرائيلي واحد في مقابل 20 شهيداً فلسطينياً، إلا أنها أقلّ من حرب غزّة 2012 (كانت النسبة 1 على 50)، وأقل بكثير من حرب غزّة 2008 (كانت النسبة 1 على 80). والعدد الكبير من القتلى في صفوف المدنيّين الفلسطينيّين يعود إلى تكدّس 1,8 مليون فلسطيني على مساحة 310 كيلومترات مربّعة فقط، وإلى عنف الغارات الجويّة الإسرائيلية التي إستخدمت خصوصاً طائرات “أف 15″ و”أف 16” وصواريخ تحمل متفجرات زنة 1000 كلغ. وكذلك إلى غياب الحماية المطلوبة للمدنيّين الفلسطينيّين في مقابل توفّر بنية كاملة من الملاجئ الآمنة للمدنيّين الإسرائيليّين.
ثانياً: على مستوى الخسائر المادية والإقتصادية، دمّر الجيش الإسرائيلي بشكل كامل ما مجموعه 3500 مقر رسمي ومبنى ومنزل فلسطيني، مع تسجيل أضرار جزئية بعشرات آلاف المساكن والمقرّات والمدارس. كما دمّر خزانات وقود محطّة الكهرباء الوحيدة في غزّة، ما أدّى إلى إنقطاع واسع للتيّار الكهربائي. وتعطّلت القدرات الإنتاجية لنحو 2500 منشأة صناعيّة فلسطينيّة خاصة، لتضاف إلى مشكلة عدم تقاضي نحو 40,000 موظّف رسمي رواتبهم منذ أكثر من ثلاثة أشهر، في الوقت الذي قُدّرت فيه الخسائر الإقتصادية العامة في قطاع غزّة بنحو ثلاثة مليارات دولار. كما تسبّب الجيش الإسرائيلي بنزوح 150 ألف نسمة خارج منازلهم وبلداتهم. في المقابل، يتكبّد الإقتصاد الإسرائيلي بشكل عام نحو 20 مليون دولار من الخسائر مع كل يوم جديد من المواجهات. وتبلغ كلفة العمليّات العسكرية التي ينفّذها الجيش الإسرائيلي نحو 30 مليون دولار أميركي يومياً، على مستوى الأسلحة والذخائر المستخدمة وخصوصاً صواريخ “القبة الحديدية” الإعتراضية الباهظة الثمن، وكذلك على مستوى الرواتب والتعويضات الخاصة بالمجنّدين الذين تمّ إستدعاءهم والذين بلغ عددهم نحو 65,000 جندي من قوات الإحتياط. كما إضطرّت سلطات مطار “بن غوريون” إلى إلغاء عشرات الرحلات الجويّة نتيجة الخطر الأمني لصواريخ حماس على الملاحة الجويّة، الأمر الذي إنعكس ضرراً فادحاً لموسم الصيف السياحي في إسرائيل، مع تسجيل تراجع في عدد الحجوزات الفندقيّة التي لم تتجاوز نسبتها 25 %، وخسرت شركة “ألعال” الإسرائيلية للطيران نحو 50 مليون دولار.
ثالثاً: على مستوى المواجهة العسكرية، تمكّنت المقاومة الفلسطينيّة من إطلاق أكثر بقليل من 2000 صاروخ في إتجاه إسرائيل، منها نحو 120 صاروخاً على تل أبيب، ونحو 20 على القدس، وبعضها طال مناطق بعيدة مثل حيفا التي تبعد 160 كيلومتراً عن قطاع غزّة. وقد نجحت منظومة “القبّة الحديديّة” الإسرائيلية في إعتراض نحو 500 صاروخ فلسطيني وتفجيرها في الجوّ، أي نحو ربع عدد الصواريخ التي أطلقت من قطاع غزّة. كما نجحت المقاومة الفلسطينية خلال المواجهات البرّية في تدمير نحو 40 آلية عسكرية إسرائيلية، بينها عدد من الدبابات، مستخدمة صواريخ مضادة للدروع. ونفّذت المقاومة الفلسطينية أكثر من 15 عمليّة تسلّل نوعية عبر الأنفاق، بعضها فشل والآخر نجح، وحاولت تنفيذ عمليّات تسلّل من البحر، وأدخلت سلاح الطائرات من دون طيّار في المعركة للمرّة الأولى. في المقابل، نفّذ الجيش الإسرائيلي نحو 7,000 غارة جويّة على قطاع غزّة، ملقياً نحو 11,000 طنّ من المتفجّرات. وقام الجيش الإسرائيلي بتدمير عشرات قواعد ومنصات إطلاق الصواريخ، وجزء من مخزون صواريخ المقاومة (تقّدره القيادة الإسرائيلية بنحو 35 % من كامل الترسانة المخزّنة). كما كشفت أو دمّرت عدداً محدوداً من الأنفاق (بين 20 و33 نفقاً حسب المصدر) في كل من بيت لاهيا وبيت حانون ونصيرات والخزاعة وخان يونس، علماً أنّ إسرائيل تعطي معركة الأنفاق أهمّية كبرى لكنها فشلت في تحديد مواقع الكثير من هذه الأنفاق. وترافق ذلك، مع قيام الجيش المصري في الأسابيع القليلة الماضية بتدمير عشرات الأنفاق التي تمتدّ من سيناء إلى قطاع غزّة، ليرتفع عدد الأنفاق التي دمّرتها مصر منذ إسقاط حُكم الإخوان المسلمين، إلى أكثر من 1500 نفق.
في الختام، صحيح أنّه يمكن تقييم ميزان الربح والخسارة في حرب غزّة-تمّوز 2014 من منظارين مختلفين، كما هي الحال مع الكثير من الأمور والأحداث والصراعات… لكن الأصحّ أنّ الجانبين مُنيا بخسائر جسيمة، هي أكبر بشكل واضح في الجانب الفلسطيني، خاصة في صفوف المدنيّين، نتيجة الفارق الكبير على مستوى القدرات القتالية بين الجانبين، والفارق في طبيعة بنية الحماية المتوفّرة لشعوب كل منهما. لكن وبعيداً عن لغة الأرقام، الأكيد أنّ الربح النهائي يتوقّف على الشكل الذي ستنتهي معه المواجهة الحالية، ووفق أي قرارات وتسويات، خاصة وأنّ كلفة الصمود الفلسطيني جاءت كبيرة على مستوى عدد الضحايا المدنيّين وحجم الدمار الهائل. وحتى الساعة، نجح الفلسطينيّون في منع إسرائيل من تحقيق أبرز أهدافها، وفي طليعتها وقف عمليّات إطلاق الصواريخ، ونزع سلاح حركتي حماس والجهاد، وإغتيال قادة المقاومة، والكشف عن كل الأنفاق التي تربط قطاع غزة بإسرائيل، وتسليم السلطة الفلسطينية المهمّات الأمنية في غزة من جديد، وفرض قرارات أممية بضمانات دولية لحدود إسرائيل مع غزة. كما أنّ للمقاومة الفلسطينية سلسلة من المطالب يُحدّد مدى الإستجابة لها هويّة المنتصر في المواجهة الحالية أيضاً، وأبرزها إنسحاب القوات الإسرائيلية من الأماكن التي إحتلّتها في غزة من جديد، ورفع الحصار الخانق المفروض على القطاع منذ سنوات، وإطلاق المعتقلين الفلسطينيّين الموقوفين منذ سنوات طويلة وأولئك الذين أعادت إسرائيل توقيفهم في الأسابيع القليلة الماضية، ووقف عمليّات الإغتيال الدورية التي تنفّذها ضد ناشطي المقاومة.
(*) سقط أوّل قتيل إسرائيلي في اليوم الثامن لبدء المواجهة، والضربة الأقصى التي لحقت بالجيش الإسرائيلي كانت في 20 تمّوز عندما قُتل 15 جندياً بالمواجهات البريّة وبعمليات نوعيّة للمقاومة الفلسطينيّة.