الدولاب” جزء من صورة بيروت وذاكرتها”

تغرق المدينة في يومياتها ولا يتوقّف الدولاب عن الدوران في مكانه قرب كورنيش البحر.

الدولاب، هو العجلة الوحيدة التي تسير في اتجاه واحد في هذه المدينة التي لا يعرف ناسها إلى أين تمشي وفي أي اتجاه.

لا يعرف أحد متى ارتفع هذا الدولاب، لكنه ومنذ ارتفع عن الأرض، صار بعضاً من مشهد الكورنيش البحري ومن مشهد المدينة.

كان دوماً شاهداً على المدينة بأفراحها وأحزانها. سمع أحاديث الزبائن في المقهى البيروتي العتيق قرب صخور وأمواج البحر، وتلصّصَ على روّاد المسابح القريبة. تفرّج على مباريات كرة قدم في النادي البيروتي العريق، جاره، وسمع أصوات المشجعين عندما يصيرون في سكر فرحهم وفي أوج غضبهم وفي قعر حزنهم. وحمل مع الصيادين همّ الرزق اليومي، وكان يضحك في وجههم طوال الوقت عندما يرمون بصنّارتهم إلى البحر.

تفرّج الهيكل الحديدي الضخم على الرياضيين الذين يركضون الكورنيش كلّ يوم، وشمّ دوماً رائحة القهوة الساخنة في صباحات المدينة ومساءاتها وروائح الذرة المسلوقة والفول من عربات البائعين العاديين الذين يجرّونها بنشاط، قبل أن تدهمهم وتلاحقهم دوريات الشرطة.

اختبأ الدولاب الملوّن من منارة تاريخية ظلّت دهراً توجّه السفن إلى ميناء المدينة. حفظ شروق الشمس وغروبها. وقد شكّلت مقصوراته دائماً المساحة الوحيدة الممكنة للتفرّج على المدينة وبحرها من فوق. مشهد صار يتقلّص تدريجياً كلما ارتفع الإسمنت في وجهه أكثر فأكثر.

شهد الدولاب على الموت اليومي وراقب كيف تأكل المدينة أبناءها وتبتلع أرواحهم. كان شاهداً على انفجارات واغتيالات وقعت بالقرب منه. انفجارات راح ضحيّتها أبرياء كان ذنبهم الوحيد أنهم تمسّكوا بالحياة وبفسحات الهواء. وقف مشدوهاً أمام ما يمكن أن يفعله الآدميون ببعضهم البعض. الحديد، الذي ولد منه، لم يكن ليقوم أبداً بأمر مماثل.

لم يسلم الدولاب نفسه من الموت. فقد اقتلعته من أرضه مرّة عاصفة هوجاء هبّت ذات فصل عاصف. ولأن الدولاب جزء من مشهد المدينة، لم يكن معقولاً التخلّي عنه. فأعاد القيّمون على مدينة الملاهي التي يسكن في أرضها، صيانته وزرعه في مكانه مرّة أخرى بعدما اكتسب ألواناً جديدة.

والدولاب ليس لعبة كبرى في مدينة للملاهي فحسب. الدولاب جزء من صورة المدينة وذاكرتها. يشبهها كثيراً. وهي، بيروت، صارت بدورها، مدينة ألعاب وملاه كبيرة. ألعاب غير مسلّية أحيانا، ومجنونة، وتدوم طويلا.

وكلما جنّت عتب عليها. وهو عتب لا يصل به إلى حد الانفلات منها والدوران بعيدا عنها. يكتفي بأن يتوقف عن الدوران. كأنه يشيح بنظره عن جنونها. كأنه يجمد الوقت بانتظار عودتها إلى رشدها. ومهما حدث، لن يتركها.

المصدر:  يوسف حاج علي – العربي الجديد