في وقتٍ دخلت البلاد اليوم السادس والسبعين بعد المئتين على التوالي “بلا رأس”، فإنّها باتت أيضًا “بلا جَسَد” بفعل التعطيل المتمادي والمستمرّ للسلطتين التشريعية والتنفيذية، والتي تمثلت آخر “ابتكاراتها” بمعضلة ما عُرِفت بـ”آلية العمل”..
يحدث كلّ ذلك في بلدٍ، لا يزال مختلف اللاعبين على ساحته يغضّون الطرف عن مصالحه ككيانٍ ودولةٍ، مفضّلين البحث عن “بطولةٍ مطلقة” تضمن لهم “الصمود” في وجه “العواصف التسووية” التي بدأت “تباشيرها” تلوح في الأفق، ولو أنّها لا تزال بعيدة جدًا..
“الشلل” تفشى حكوميًا..
في وقتٍ تحوّل الفراغ الرئاسي إلى ملفٍ هامشي بل إلى “أمر واقع”، باتت معه جلسات الانتخاب المفترضة تمرّ مرور الكرام دون أن يشعر بها أحد، وأصبح “الناخبون المفترضون” بدورهم بمثابة “المغلوب على أمرهم”، بحيث يكتفون برفع شعار “لا حول ولا قوة” في أحسن الأحوال، بات بالإمكان الحديث عن “فراغٍ حكومي” بكلّ ما للكلمة من معنى، بعد “الانفجار” الذي أصاب هيكلية مجلس الوزراء، التي تفشّى فيها داء “الشلل” بشكلٍ واسع مانعًا إياها من أيّ قدرةٍ على الحركة.
برأي مصادر سياسية مطلعة، فإنّ ما حصل في مجلس الوزراء كان متوقعًا، ذلك أنّ “التوافق والإجماع” لا يعدو كونه “مسرحية هزلية ساخرة” في بلدٍ يكاد اصطفافه السياسي والطائفي يجرّده من كلّ “أوراق القوة”، إن وُجِدت. من هنا، فإنّ الآلية التي حكمت عمل مجلس الوزراء منذ احتلال “فخامة الفراغ” كرسيّ بعبدا، والتي حوّلت الوزراء الأربعة والعشرين الذين تتكوّن منهم الحكومة إلى “رؤساء جمهورية”، لم يكن مقدّرًا لها أن تصمد في وجه كلّ الأعاصير، بل إنّها تحوّلت إلى “فراغ” من نوع آخر، شاء من شاء وأبى من أبى.
تقرّ المصادر بأنّ هذه الآلية طُبّقت سابقًا، إبّان الفراغ الذي حكم البلاد بعيد انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، ولكنها تشير إلى أنّ المقارنة بين التجربتين لا تصحّ، خصوصًا أنّ الحكومة آنذاك لم تكن تدّعي “المصلحة الوطنية”، بل كانت عرجاء لا تضمّ في صفوفها سوى لون “آذاري” واحد، وبالتالي فإنّ “الفيتو” لم يكن ذا شأنٍ كما هو اليوم، بفعل اتفاق الآراء في داخلها، وبالتالي غياب منطق “النكايات” عنها.
سليمان.. رئيسٌ مع وقف التنفيذ؟!
ولأنّه لا يكفي أنّ “الفراغ” ولّد أربعة وعشرين “رئيسًا” أو أقلّه “وزيرًا ملكًا” يعتقد كلّ منهم أنّ مصير البلاد والعباد مرتبطٌ به، فإنّ حراكًا آخر لا يزال يثير الاستغراب والدهشة لدى المراقبين، ألا وهو حراك الرئيس السابق للجمهوريةميشال سليمان، والذي يتصرّف وكأنّه لا يزال “ساكن قصر بعبدا”، على حدّ تعبير مصادر سياسية متابعة.
وبعيدًا عن التصريحات التي يطلقها الرجل عند كلّ استحقاق، حيث يعلن فيها عن “متابعته” للقضايا كما كان يفعل حين كان رئيسًا، وبغضّ النظر كذلك عن استقبالاته ولقاءاته الرسمية منها وغير الرسمية، تتوقف المصادر بشكلٍ خاص عند اللقاء “الوزاري” الأول من نوعه الذي “رعاه” في منزله خلال عطلة نهاية الأسبوع، والذي حمل عنوان رفض تعديل الآلية القائمة حالياً على أساس الإجماع، الذي لم يعد يتوافر على أبسط الأمور، بل تذهب لحدّ الكلام المنسوب لسليمان والذي أعلن فيه قدرته على امتلاك “ثلثٍ معطّل” في داخل مجلس الوزراء.
تقرأ المصادر في كلّ حراك سليمان “رسالة” يوجّهها العسكري السابق ومفادها أنّ “كلمته” داخل الحكومة التي تأسّست قبل مغادرته القصر الرئاسي لا تزال “صادحة”، وبقوة. برأيها، فإنّ الرجل، الذي لا يزال يبحث عن “دورٍ” له وسط الاصطفافات القائمة، يريد أن يقول “أنا هنا”، ويحاول أن يضرب أكثر من “عصفور” بحجرٍ واحدٍ، موحيًا للرأي العام بأنّه الحريص على موقع الرئاسة، في وقتٍ “يتلهّى” الأقطاب الموارنة بـ”قشورٍ” لا تقدّم ولا تؤخّر، ولعلّ هذه النقطة بالتحديد هي التي تمنع التوصّل إلى آلية مُنتِجة تمرّر الوقت المستقطَع.
“تخبيص” خارج الصحن..
ليس سليمان وحده من يعترض على البحث بالآلية. رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، رغم تحسّسه على دوره من اللقاء الذي استثناه، يشاطره الرأي. “حرام أن نتلهى بمعالجة العوارض ونترك السبب الرئيسي لكل هذه المشاكل، أي انتخاب رئيس بدل استنباط آلية لنعالج الفراغ الحاصل”، يقول جعجع، قبل أن يضيف: “ما يحصل اليوم هو تخبيص خارج الصحن، لأن المقاربة كلها خاطئة”.
وإلى جانب سليمان وجعجع، لا شكّ أنّ “الضغط” الأكبر يبقى من المرجعية المارونية الأساسية، وتحديدًا من البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الذي طالب في عظة الأحد بممارسة اعمال الحكومة بـ”ذهنية تصريف الأعمال لا بابتكار آليات تتنافى والدستور، وكأن الفراغ الرئاسي أمر عادي”.
“لا شكّ أنّ الفراغ الرئاسي ليس أمرًا عاديًا”، تقول المصادر، “ولا شكّ أنه لا يجب أن يصبح أمرًا عاديًا، وليس مقبولاً أن يصبح أمراً عادياً”، ولكنها تتساءل عمّا إذا كان المطلوب اليوم إيقاف عجلة البلد بانتظار إتمام هذا الاستحقاق، خصوصًا بعد ما ظهر بما لا يقبل الشكّ أنّ الكلّ ينتظر أمر العمليات الخارجيّ، وإذا كان هذا هو المطلوب، فما الذي يفعله هؤلاء بالتحديد لتغيير مسار الأمور وإنجاز الاستحقاق الذي تجاوز أوانه منذ أشهرٍ طويلة؟
“الأصيل” يستعيد زمام المبادرة؟!
أكثر من ذلك، كثرٌ يشاطرون سليمان وجعجع وغيرهما عملية البحث عن “دور”، في هذا “الوقت الضائع” الذي تمرّ به البلاد، وهي التي باتت كلّ مواصفات “العجز” تحيط بها من كلّ حدبٍ وصوب، ولعلّ الحوارات القائمة في هذه المرحلة تندرج أيضًا في هذه الخانة، وعلى وجه الخصوص الحوار المسيحي المسيحي، خصوصًا إذا كان صحيحًا ما تقوله المصادر من أنّ رئيس تكتل “التغيير والإصلاح” العماد ميشال عون ورئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، لم يكونا ليوافقا على الحوار فيما بينهما لولا “طمعهما” بالوصول لكرسيّ بعبدا.
وبين هذا وذاك، برز حراك رئيس “تيار المستقبل” سعد الحريري، بعد عودته “المؤقتة” إلى لبنان، كما لا يزال الكثيرون يعتقدون، وإن طالت مدّتها. هنا أيضًا، يتصرّف الرجل خلال “إقامته” في بيروت وكأنه رئيس الحكومة “الأصيل” مستعيدًا زمام المبادرة من “الوكيل”، أي رئيس الحكومة تمّام سلام، فالحريري يستقبل ويودّع، بل هو من يقرّر، ويتحدّث باسم الحكومة، كما يتراءى للكثيرين، وهو هنا أيضًا يبحث عن “بطولة” يعتقد الكثيرون من محيط “تيار المستقبل” أنه أضاعها بـ”غربته” التي طالت، والتي ساهمت بشكل أو بآخر في انحراف بيئته الحاضنة إلى مسلكيّاتٍ أبعد ما تكون عن “الاعتدال”.
الاستقرار أولاً.. ولكن؟
الاستقرار أولاً، وتحت هذا العنوان، تُعقد الحوارات هنا وهناك، حواراتٌ لا تأتي من قريبٍ ومن بعيدٍ على الملفات الخلافية الحسّاسة، حتى ولو سأل سائلٌ ما الجدوى من الحوار إذًا؟
الاستقرار أولاً، وتحت هذا العنوان، يصرّ الأفرقاء على استمرار الحكومة الحالية، ولو منعتها الآلية التعجيزية من اتخاذ أيّ قرار، حتى ولو سأل سائلٌ عندها ما الجدوى من بقائها إذًا؟
الاستقرار أولاً إذاً. هذا هو لسان حال جميع الأفرقاء، ومنه ينطلقون للمحافظة على “دورهم” في أيّ “تسوية” يمكن أن تحصل، ولو بات الوطن، كلّ الوطن، على المحكّ!