تميّزت الثورة السورية بعفويتها حتى في حمل السلاح، إذ إن معظم من حمل السلاح مدنيون لا خبرة سابقة لهم به، فانبهر السوريون ولاسيما الشباب منهم، بالمهاجرين في “جبهة النصرة” أو غيرها الذين يمتلكون خبرة ومهارة عاليتين، ما دفع عدداً كبيراً من الشباب للانخراط في صفوف فصائلهم للقتال بجانبهم.
بداية بريئة متواضعة وراء الانضمام لـ “النصرة” وأخواتها، هدفها إسقاط نظام بشار الأسد فقط دون أيّ بعد إيديولوجي أو طموح سياسي. فالمهاجرون حفّزوا الحمية في نفوس الشباب. “لقد شعرنا بالخجل أمام اندفاع المهاجرين وبسالتهم، لأننا أبناء البلد لم نكن نملك إقدامهم وشجاعتهم”، يقول أبو محمود من لواء التوحيد.
ومع إعلان البغدادي حلّ جبهة النصرة بدأ الشرخ، وبدت الصورة تتضح رويداً رويداً، واختلفت حينها السياسة على الأرض. الناشط الحقوقي محمود من ريف حلب، يشير إلى أن “السوريين أعجبوا بالنُصرة لأنّها تفرغت لقتال النظام، وقدّمت خدمات مدنية للأهالي، دون أن يكون لها في حينه مطمع مادي أو سلطوي، فتركت المرافق المحررة لأهل البلد يديرونها”، أمّا تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” فبدأ يسير برؤية واضحة ومغايرة، إذ باشر وضع اليد على المرافق والمنشآت الاقتصادية والحيوية، ورفض الاعتراف أو الانخراط في المؤسسات الثورية القضائية أو الأمنية أو السياسية أو العسكرية أو التعليمية.
ناصر العنصر السابق في الجيش السوري الحر، يذكر في بداية الانقسام أنّه سأل أميراً في التنظيم “لماذا لا تتوحدون معنا في قتال الأسد؟”، فابتسم قائلاً: “مشكلتكم أنكم لا تدركون أننا دولة، ونعمل على هذا الأساس، فكيف تريد من الدولة أن تتوحّد مع تنظيمات وفصائل؟”، ويضيف ناصر: “سخرت حينها من كلامه، واعتبرته هلوسة وأحلام”. لكن الأمر كان بداية التمايز من حيث المنتسبين بين النصرة والتنظيم.
انخرط معظم المهاجرين بالتنظيم بعد انفصاله عن النصرة في صيف 2013م، لكن النظرة للتنظيم بقيت على أنه فصيل ثوري. وفي هذه المرحلة خاض التنظيم عدة معارك، وأقام مقراته، ومكاتب الدعوة في مناطق سيطرة الثوار، ونجح من خلال هذه المراكز بجذب عدد من الشباب المتحمس، لكن بقي المهاجرون أغلبية، لأنّ الهجرة لم تتوقف.
وجد المهاجرون (الأجانب) في التنظيم ضالّتهم، فمشروعه عابر للقارات والحدود، ولا يعترف بالانتماءات الوطنية والعرقية، ويرفض كل النظريات القومية والسياسية الحديثة. ويقول الشيخ عبد الحي من ريف حلب: “استقطبت نظرية التنظيم المهاجرين، ولا سيما أنهم طلّقوا أوطانهم باحثين عن وطن جديد يحتضنهم، فوجدوا في الدولة الموعودة ضالتهم”.
تعرض التنظيم لهزة قوية بداية 2014م كادت تقضي على وجوده في سوريا لو توفر الدعم للثوار حينها، إذ انكفأ حينها إلى مناطق محددة، وانسحب من ريفي إدلب واللاذقية وقبلها من ريف حلب الغربي وريف إدلب المحاذي لريف حلب بمعارك كانت الأشدّ مع الثوار، وخسر كثيراً من المنتسبين السوريين الذين فضّلوا الانسحاب من التنظيم على قتل أبناء بلدهم.
لكنَّ ذلك أفاد التنظيم لاحقاً، فالمناطق التي انكفأ إليها تتجمع فيها الثروات (حقول النفط، السدود، محطات توليد الكهرباء، صوامع الحبوب، الأراضي الزراعية الشاسعة وغير ذلك)، وقد حكم هذه المناطق منفرداً بالحديد والنار، فقطع الرؤوس، وصلب المعارضين في الساحات.
إلا أن “داعش” بقي يعاني من قلة المنتسبين السوريين الذين نظروا إليه كفصيلٍ باغٍ معتدٍ مزّق صفوف الثوار، وحرَف الثورة عن مسارها. وقد انتسب للتنظيم بهذه الفترة المتسلقين الذي وجدوا فيه ضالتهم ليغطون جرائمهم السابقة ويتكسّبون باسمه. ثم جاءت انتصارات التنظيم في العراق، وسيطرته على مناطق واسعة في الموصل والأنبار لتعطي دفعاً معنوياً، وأعطت هذه المكاسب التنظيمَ عدداً كبيراً من المنتسبين الجدد، وبات يعزف على سيمفونية الطائفية التي تغذّت ونمت على ممارسات المالكي والأسد.
لكن عدد السوريين في صفوف التنظيم بقي دون المأمول، فكان لا بدَّ من انتصارات في سوريا تدفع الشباب للانتساب إليه، فخاض ثلاث معارك ضد النظام السوري (الفرقة 17، اللواء 93، مطار الطبقة)، وكانت كفيلة برفد التنظيم بمنتسبين جدد، إذ كان ينتسب أكثر من خمسة آلاف عنصر شهرياً، وقد بدا لهؤلاء أنّ التنظيم لا يقهر ويتمدد، ودولته باقية، ولم يقتصر الانتساب على الأفراد فانضمت في هذه الفترة ألوية وكتائب بكاملها، مثل لواء داوود الذي جاء من إدلب وبايع التنظيم وأخذ نقطة هامة بمواجهة النظام وهي حقل الشاعر.
ثم خفّت وتيرة الانتساب عقب زوال وهج الانتصارات، وساعد على ذلك أخطاء التنظيم، وسوء المعاملة والإدارة للدولة التي دعا إليها، فاحتقن الشارع ضد ممارساته وسياساته على مختلف الصعد.
وجاءت ضربات التحالف لتشكل طوق نجاة جديد، فمنحت هذه الضربات التنظيم شرعية سعى جاهداً للحصول عليها، وأظهر “داعش” نفسه بأنه القوة السنّية الوحيدة التي تقف بوجه المد الشيعي، والإمبريالية العالمية. ويقول أبو حسن من أحرار الشام سابقاً: “كانت الشكوك تطارد التنظيم في مراحل تمدّده كلها، فجاءت ضربات التحالف التي استثنت الأسد لتظهر التنظيم كمدافع عن السوريين في وجه الغرب الحريص على الأسد المعادي للإسلام”، وقد أجاد التنظيم العزف على هذا الوتر، واستطاعت الخطب النارية المرافقة لهذه الضربات رفد التنظيم بآلاف المقاتلين.
ثم جاءت معارك عين العرب لتلعب دوراً سلبياً للتنظيم، فكانت أشبه بمصيدة له، ثم كانت النهاية المأساوية المترافقة مع إعدام معاذ الكساسبة حرقاً سبباً بانحسار عدد المنتسبين، لاعتبارهم أن “الدولة” باتت عاجزة عن التمدد، ومهددة بالزوال.
غير أنّ وصول القتال في ريف عين العرب للقرى العربية، وحرق القوات الكردية للقرى العربية في تل حميس دفع عدداً من الشباب العرب للانتساب للتنظيم، لكونه الوحيد المدافع عن العرب السنة في مناطقهم، هذا في وقت لا يزال فيه المهاجرون يعبرون الحدود، وما زالت معسكرات التنظيم تستقبل مقاتلين جدد.
لقد تعرضت عملية الانتساب للتنظيم لحالات مد وجزر، متأثرة بأسباب كثيرة لعلّ الفقر أبرزها. فالمناطق التي سيطر عليها تعاني قبل الثورة من البطالة والإهمال الحكومي، فضلاً عن وجود أعداد كبيرة من النازحين الفقراء.
يقول المربي عمران من مدينة منبج إن “معظم السوريين المنتسبين للتنظيم في مدينة منبج هم من النازحين من أبناء السفيرة وحلب، ومؤخراً بدأ قسم محدود من أبناء منبج وريفها بالانخراط بالتنظيم تحت ضغط الفقر، فرواتب التنظيم مغرية”. هذا ولعبت الدورات الشرعية والدعاية الدينية دوراً بانضمام أعداد كبيرة، إذ أوحى التنظيم أنه الوحيد المدافع عن أهل السُنّة والجماعة في بحر الفتن المتلاطم، ولا يغيب هنا أنّ التنظيم بات الفصيل الوحيد العامل ضد النظام بعد قضائه على بقية الفصائل، فلم يعد بالإمكان لأبناء المنطقة محاربة الأسد إلا بالانتساب للتنظيم.
كما لعبت العوامل النفسية والاجتماعية دوراً في انتساب شريحة كبيرة، إذ كان للمظلومية التي تعرض لها الشعب أثر كبير بالدفع نحو التطرف، وعرف التنظيم كيف يسوق نفسه كمدافع عن المظلومين، واستغل طبيعة المجتمع العشائري، فعقد بيعات ومؤتمرات للعشائر تمت فيها البيعة للبغدادي.
وليس العامل الأمني ببعيد عن أسباب الانتساب، فكثير من منتسبي الجيش الحر السابقين والعوائل انخرطوا في التنظيم لحماية أنفسهم.
إلا أنه رغم كل عمليات الانتساب المتتابعة ما زالت الأعداد من السوريين قليلة، لأن المجتمع السوري المعتدل المنفتح لم يتقبّل حتى الآن تطرف التنظيم وتزمته، ولو تغيرت السياسة الدولية إيجاباً نحو الثورة السورية لانحسر عدد السوريين في صفوف التنظيم بشكل كبير. (nowlebanon)