كتب المحرر السياسي
سليمان فرنجية مرشحاً جدياً لرئاسة الجمهورية، لمَ لا؟
لا أحد يشكك لا بمارونية ولا بمسيحية ولا بوطنية ولا بعروبة زعيم «تيار المردة».
لا هو من الصنف الذي يخجل بعلاقته بالمقاومة، وقائدها السيد حسن نصرالله، ولا بالرئيس نبيه بري، ولا هو من طينة من يتقنون نقل البارودة من كتف الى كتف. كان مع سوريا في عزّ نفوذها في لبنان قبل جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وظلَّ معها في أصعب مراحل علاقتها بلبنان، وفي عزّ الأزمة الوطنية السورية المفتوحة منذ خمس سنوات، وهو من قلة قليلة من أهل السياسة ممن يتباهون بعلاقتهم بالرئيس بشار الأسد وبالصداقة المفتوحة بين الأسرتين.
لا أحد يشكك بصدق تمثيل هذا الزعيم الماروني الطرفي. لم يتهم جمهور الشمال بالخيانة بعد سقوطه في الانتخابات قبل عشر سنوات، ولم يقطع أواصر الصداقة والعلاقات مع كل الحساسيات الشمالية، وخصوصاً الطرابلسية. ظل مقتنعا بأن ما يجري من استنفار للغرائز الطائفية والعصبيات المذهبية والمناطقية هو موجة عابرة وأن الناس لا بد أن تعود الى أصالتها.. وكسب الرهان.
ويوم صدرت وثيقة بكركي باسم قادة الموارنة الأربعة ميشال عون وأمين الجميل وسمير جعجع وسليمان فرنجية برعاية البطريرك بشارة الراعي، كان موقف زعيم «المردة» أنه لا يجوز اختزال معادلة «الرئيس القوي» بالرباعي الماروني، داعيا الى ترك الباب مفتوحا على احتمال خامس وسادس بين الموارنة أنفسهم!
فجأة، صار فرنجية هو «المزور» وهو «الوكيل» و«البديل» وغيره هو «الحقيقي» و«الأصيل».
فجأة سقطت السياسة وكل الجدران التي كان يختبئ وراءها موارنة المقلبين الآذاريين. كل ما كان مباحاً لهذا وذاك، قبل سنة أو سنتين، سواء اندرج في خانة «المناورة» أو «المشروعية»، صار معيباً مع «ابن فرنجية».
قد يكون موقف جعجع مبرراً الى حد كبير. بينه وبين سليمان فرنجية خصومة معمّدة بالدم الزغرتاوي الذي سال في اهدن قبل 37 سنة. خصومة لم يكسرها سوى حرص هذا أو ذاك على عدم اهتزاز البنيان المسيحي الهشّ أصلاً، أو رأفة بمن تبقّى من المسيحيين.. قبل الرهان على تجنيس أساطيل المغتربين.
لم يندم فرنجية على دور لعبه في معركة مواجهة قانون محاسبة سوريا وصدور القرار 1559، وعندما دافع عن خيار التمديد لإميل لحود، كان يمارس فعل الخيانة مع قناعاته الشخصية، لكنه تجاوز جرحه الشخصي وكل مراراته مع «ابن بعبدات»، ليصوت له من موقع «الخط» و «الضرورة» ليس الا.
هو سليمان فرنجية الشاب الذي لا يدّعي «عبقرية» في السياسة على شاكلة من أتى قبله مدعياً احتكاره علوم السياسة شهادة وخبرة.. وكان جواب «ابن فرنجية» أن الحق على «الرانجر» العسكري!
إن أي ساذج في السياسة، يدرك أن سعد الحريري عندما يقرر في هذه اللحظة، أن يلتقي سليمان فرنجية، في مناسبة اجتماعية مدبّرة في باريس قبل أقل من أسبوع، لا يمارس ترفاً في السياسة، ولا يمكن الا أن يستشير مرجعيته السعودية، ذلك أن من ينادي بتسوية في سوريا تضمن رحيل بشار الأسد، لا يمكن أن يقبل بتسوية في لبنان تساوي بنتائجها ومضمونها اعادة الأسد الى لبنان، ولكن هذه المرة من عقر دار رئاسة الجمهورية!
قد لا يكون السعوديون في وارد تسوية، وربما يريدون تحييد لبنان لتفادي خسارات اضافية لاحقة، وربما هم يناورون، وهذا الأمر لا يمكن الا أن يضعه شخص مثل سليمان فرنجية في الحسبان، خصوصاً أنه من الصنف الذي يصارح الحلفاء وأقرب المقرّبين اليه بكل ما يضعه من احتمالات، بما فيها احتمال أن يكون الخيار الحريري جدياً لاعتبارات حريرية شخصية وسياسية أولا وسعودية وأميركية ثانياً.
وأي ساذج في السياسة اللبنانية يعلم أن فرنجية لا يمكن أن يقدم على خطوة أقل من رحلة باريس من دون أن يضع الحلفاء، خارج الحدود وداخلها، في مناخاتها وما يمكن أن تؤول اليه.
يسري الأمر نفسه على الحريري الذي بات يضع علاقته بـ «الوسطي» وليد جنبلاط في موقع متقدم عن معظم علاقته بكل مكونات «14 آذار»، وخصوصا «القوات اللبنانية» و «الكتائب». من هنا، يمكن تفسير الحرص الحريري على وضع جنبلاط في «كل شاردة وواردة» قبل اللقاء وبعده، الى حد جعل مرجعاً لبنانياً سابقاً يردد في مجلسه الخاص أنه يملك معلومات مفادها أن السعوديين فوّضوا الحريري بملاقاة التسوية التي دعا اليها الأمين العام لـ «حزب الله»، بالتنسيق الكامل مع جنبلاط، بهدف تحييد لبنان عن الاشتباك الاقليمي المفتوح وغير المضمونة نتائجه.
هذه الملاحظات لا تمنع طرح أسئلة:
هل أطلع الحريري المجموعة «المستقبلية» التي استدعاها الى الرياض في عطلة نهاية الأسبوع على «الحقيقة»، وبالتالي، طلب منهم التصرف كأن شيئا لم يحصل، أم أنه تعمد ابلاغهم النفي المطلق لأصل اللقاء.. وفي هذه الحالة أو تلك، ما هو المقصود وهل يخشى من بروز عناصر تؤدي الى التخريب (من داخل كتلته أو من خارجها) على النتيجة المتوخاة، سواء أكانت مناورة سياسية أم تسوية رئاسية؟
ماذا طرح الحريري من أسئلة على فرنجية وطلب أجوبة عليها، وفي المقابل، ما هي الاستفسارات التي طرحها زعيم «المردة» وطلب من زعيم «المستقبل» أجوبة عليها، وهل التقى الطرفان على عناوين سياسية محددة، وهل تتقاطع هذه العناوين مع مفهوم السلة المتكاملة للتسوية التي دعا اليها كل من الرئيس نبيه بري والسيد حسن نصرالله؟
هل هناك تفسير موحّد لمفهوم التسوية الشاملة، فإذا جاء رئيس من «8 آذار» (فرنجية)، هل تكون التتمة برئيس حكومة من «14 آذار» (الحريري)، وماذا عن رئاسة المجلس النيابي المقبل والقانون الانتخابي والثلث الضامن والوزارات السيادية وقيادة الجيش.. والأهم من ذلك، أين سيكون موقع رئيس الجمهورية المقبل من الصراع الإقليمي المحتدم في كل ساحات المنطقة بين الرياض وطهران؟
عندما بلغت بيروت أولى إشارات اللقاء الباريسي، كان جواب أحد المعنيين مباشرة أن الحريري ليس في موقع من يصنع تسويات في لبنان، في ظل ما اعتبره قراراً سعودياً حاسماً بكسر ما أسماها «الأحادية السنية»، وأن هذا اللقاء موجه ليس ضد ميشال عون بل ضد سمير جعجع، ومن ثم باقي مسيحيي «14 آذار».
قد يكون الشق الأول موضع التباس، لكن الشق الثاني صار مكشوفاً بدليل ما يقال في السر والعلن في المجالس الحريرية بحق رئيس «القوات»، خصوصاً بعد أن فتح الأخير خطاً مباشراً مع السعوديين، وهذا الخلاف نتاج تراكم عمره من عمر «السين سين» الأولى، ومن ثم تفاقم في أكثر من محطة ليس آخرها لقاء روما قبل سنتين بين العماد عون والرئيس الحريري، والموقف من «القانون الأرثوذكسي»، و «اعلان النوايا» بين الرابية ومعراب، والموقف من الحوار الثنائي بين «المستقبل» و «حزب الله»، ومن ثم طاولة الحوار الوطني وكلها محطات خلافية بين الاثنين.
أن يكون جو «القوات» و»الكتائب» ومعظم مستقلي «14 آذار» من المسيحيين، متشنجاً في ضوء ما تناهى إليهم حول مضمون لقاء باريس، هو أمر مألوف، برغم أن سامي الجميل قد «يلعبها» بطريقة مختلفة، وهو الذي كان قد ألمح قبل عشرة أيام إلى «تخريجة رئاسية» قد يعلن فرنجية عنها قريبا، غير أن المفارقة التي صدمت بنشعي تتمثل في حجم الانفعال غير المألوف في خطاب الرابية، بدليل ما نقله بعض «سعاة الخير» من كلام نقدي لـ «الجنرال»، وما تضمنته مقدمة نشرة «او تي في» في اليومين الماضيين من كلام سياسي قاس للغاية، علما أن فرنجية عضو في «تكتل التغيير» ولا يحل على ساحة المرشحين من الفضاء، ثم «كيف يكون جعجع مقبولا في قاموس الرابية الرئاسي بينما يصبح سليمان فرنجية منبوذا» على حد تعبير أحد مسيحيي «8 آذار»؟
لا يمكن لترشيح فرنجية للرئاسة من قبل سعد الحريري والسعوديين الا أن يثير ريبة حلفائه ويجعلهم يطرحون الكثير من الأسئلة، خصوصاً من جانب «حزب الله»، وهو الطرف الأكثر احراجا في ما يسميها حتى الآن «مناورة سياسية بامتياز»، تذكر بمناورة ترشيح ميشال عون قبل سنتين بعد لقاء روما الشهير، لكن تداعيات هذه المناورة قد لا تقتصر على الفتنة بين الرابية وبنشعي أو بين الرابية وحارة حريك، انما ستكون مدمِّرة الى حد كبير لكل بيت «14 آذار».