إعداد وحوار : منى العريضي
تصوير: انور الصيفي
هي قطعة السماء التي أغدقت علينا بالهوية الصافية .. هوية لا تعرف مذهب ولا حدود ..نشأته لبنان ومرقده نيحا وصدى صوته لا يزال يجول العالم … وديع الصافي لم يرحل .. لم يغب.. فارقنا بالجسد الذي ارهقه العطاء للأرض وللسماء والوطن ..للعصفور والسوسنة التي انحنت على غيابه وعادت لتحيا مع الأبناء الذين تسلموا الشعلة من قديس الطرب.. أنطوان الصافي هو أحد الورثة الأثرياء من جعبة الأخلاق قبل الفن .. وريث الصوت والعاطفة الجياشة والكرم والمحبة التي لا تعرف شرطاً ولا مقياس..
يومٌ مجيدٌ جمعنا بحبيب الوالد الراحل.. التقينا الفنان انطوان الصافي الذي ادخلنا عالم آل صافي مشاركاً إيانا تفاصيل حياته العائلية .. فكانت البداية من نادي الفروسية مواكباً ابنائه في نشاطاتهم على خطى الوالد، ومن ثم كان اللقاء الاجمل مع العائلة الجميلة مكتملة حول مائدة مرصّعة بالحبكة التونسية من يد الزوجة الجميلة أم بشارة وصوفي وآية ماريا..
لم يبخل علينا “الصافي” الإبن بإهدائنا باقة من الأغنيات احداها اغنية ” رح نبقى سوى” كتبها رئيس تحرير مجلة الديمقراطية د. سليم حمادة عربون محبة ووفاء وتقدير -نبادله بالمثل- لمن أحبهم الله .. فأكرمهم .. وأكرموا محبيهم !
1- حدّثنا عن بعض الذكريات الجميلة التي جمعتك مع قديس الطرب الفنان الراحل وديع الصافي – الأب والفنان ورجل الأربعين صوت كما سّماه الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب ؟
لقد أمضيت طفولتي معه وكان يتوق دائماً لأرافقه، فقد كان يقول لوالدتي ممازحاً ” بتعريني ياه “.. ليس هناك اجمل من الذكريات التي جمعتني مع والدي في طفولتي. وغالباً ما يذكرني ابني بشارة بطفولتي عندما نكون سوياً. لذلك عندما يعيد التاريخ نفسه يشكل عزاء كبير لدينا ونشكر الرب الذي عوضني بأولادي.
لم يجالس والدي احد كما فعل معي وتبادلنا أفكار حتى اللحظة الأخيرة… لذا الذكريات كثيرة واكتفي بالقول انها جميلة وجميلة جداً.
– كان يتميز الراحل بالعاطفة الشديدة تجاه عائلته الصغيرة والكبيرة وقد ورثتم انتم ابنائه هذه الصفة بإمتياز .. فقد أبكيت مذيع إذاعة الشمس في احد اللقاءات عبر الهاتف إثر وفاة الوالد من خلال العبارات والكلمات المؤثرة التي رثيت فيها الراحل وديع الصافي.. وأبكيتنا جميعاً …
انه رجل لا مثيل له.. هو الأب الحنون.. فقد ترك في داخلنا أثراً كبيراً اقل ما نسطيع القيام به هو تذكر مزاياه الكثيرة في حياته ومماته.
2- تميزت عائلة آل صافي من الجد بشارة الى الوالد الوديع الى الأبناء والأحفاد بالمواهب المتعددة حيث ذاع صيت العائلة في أرجاء العالم وأصبح يشّكل بيت الصافي هوية اللبناني في بلد الإغتراب.. ماذا حمّلتكم هذه الصفة من مسؤوليات؟
اهم شيء ان نُبقي في ذاكرتنا “من نحن ومن أين جئنا” .. هكذا فعل والدي وجدي .. وهذا الأمر يكرس بيئتنا وعاداتنا الطيبة . الشرق، منبع القيم الإنسانية ولقد نشرنا هذه القيم في انحاء العالم ..
عندما كان الأوروبيون يتصارعون فيما بينهم..كان اللبنانيون يرسلون سفنهم عبر البحار ليكتشفوا العالم ويتلقوا المعرفة والنور من كل حدب وصوب. ويأتوا إلينا بالعادات الجيدة من كافة شعوب العالم . فالفينقيين هم اجدادنا وقسم كبير منا فيه خليط من الفينقيين والكنعانيين وغيرهم.. انتشروا اجدادنا جغرافياً في ارجاء العالم من دون حروب ولا نزاعات واقتصرت الحروب فقط على المعتدين.. ولكنهم بنوا قرطاج واسبانيا وبلاد الاندلس من دون حروب ولا نزاعات .. هذا تاريخ لا يجب ان ننساه بل يجب ان نفتخر به دائماً وأبداً.
بكل بساطة إذا نحن حافظنا على اخلاقنا، عندها فقط نستحق ان نكون احفاد اولئك الذين نشروا نور وثقافة وعادات هذا الوطن بجدارة .. لبنان لا يزال يحمل هذه المزايا وهذه الرسالة لم تتغير .. فاللبناني اينما وُجِد يبني ويشيد ولكنه لا يستعمر.. فكل ما حافظنا على ميراثنا الأخلاقي هذا، كل ما كرسنا وأثبتنا وجودنا في لبنان والعالم .. لأن هذه هي حقيقتنا.
3- ذكرت مراراً أن الوالد لطالما حمل الرسالة الإنسانية والأخلاق، ورسم درب الفن على طريقته بغية رقي الإنسان وتثقيفه.. وقد تسلمت هذه الشعلة بعد أن نذرت نفسك في خدمة القداسة ( قديس الطرب أحد ألقاب الفنان الراحل وديع الصافي).. إلى أي مدى انت مؤمن انه لا يزال هناك جمهور يرضخ لذلك الرقي كعلامة فارقة في عالم الأخلاق الفني؟
بعد عودتنا من فرنسا عام 1991، حمّلنا الجمهور مسؤولية الفلتان الفني والاخلاقي في لبنان .. فكنا نسمع تذّمر الناس اينما ذهبنا من هذا الفلتان … لكننا لسنا نحن مسؤولين عن هذا الإنقلاب على عالم الاخلاق والفن الحقيقي مطلقاً ..والدي قام بصنع الطبخة، الا وهي مسيرة النجاح والبقاء، ومن علق مسيرته على القيم والاخلاق فهو باقٍ بقدر بقاء هذه القيم.. الناس راحت تطالبنا بالقيام بشيء ما حيال ذاك الفلتان ولكن ما بيدنا حيلة” لا يصلح الله ما بقوم حتى يصلحوا ما بأنفسهم”. انها مسالة مسيرة .. والدي دخل الى عالم الفن وقام بتغيرات فيه .. اما هؤلاء جاؤوا ليقطفوا زرعاً ويبعثوا في الأرض فساداً.. الجزء الاكبر منهم ضائع … والقلة يفعل ذلك عن إدراك ..
اكبر دليل على ذلك، ان غالبية الذين دخلوا عالم الفن منذ 40 عاماً لم يضيفوا اي جديد على أنفسهم .. بينما وديع الصافي اخترع نفسه كل يوم وكان يضيف على نفسه جديد كل يوم وتفوّق على نفسه في كل يوم يمر .
وللمفارقة، بالأمس القريب دعتني لجنة تكريم Mc awards مخصصة الراحل بدرع وفاء وتقدير .. تسلّمت الدرع المرفق بكلمات مؤثرة وجميلة.. وقد أصّر علي الشاعر الكبير ميشال جحا بان اقدم أُغنية للراحل بالمناسبة، فوقع الإختيار على أغنية من كلمات المرحوم والحاني يقول في مطلع الأغنية” ما في حدا باقي ولا العمر طويل عم يسرقوا وراقي بهالزمن البخيل .. يمكن بكرا الايام عغفلة تسرقني وتسافر الأحلام وحبيي يسبقني.. وتغمرني الليالي وخليني لحالي ابكي على حالي من قبل الرحيل..”
وخلال هذا الآداء استوقفني الحضور اكثر من مرة حيوا فيها روح الراحل مراراً وهنا بيت القصيد .. فالأذن تدرك الفرق سريعاً لأن من يقلّد غير صانع الشيء.
– هل يتكرر وديع الصافي ؟
وديع الصافي لن يتكرر.. ولكننا نستطيع السير على دربه ونتبنى نهجه .. كان الراحل يقول عن الحاني – بكل تواضع – ” الحانك نازلين عن قلبي ” ويمكنك ان تلّحن بالنيابة عني .. هذا يعني اني أسير على النهج عينه والاستمرارية تكمن في الروحية والأخلاقيات عينها.. بالإضافة ان كل انسان له دوره .. والدي كان دوره اكثر من هائل علماً انه بدأ من دون الصفر ولم يكن لديه شيء يخسره .. اما انا لا استطيع ان أبدأ من المكان الذي بدأ منه وديع الصافي والفضل يعود له وهو الذي اورثنا هذه النعمة في حين لم تتوفر له هذه الإمكانيات في بداياته.. جدي بشارة كان شيخ صُلح ومعروفاً فقط ضمن بيئته .. اما انا أبدأ من المكان الذي تركه الوالد اكراماً له.
– يُقال انه غالباً ما لم يكن الجمهور يستطيع ان يفرّق بين صوتك وصوته عندما تكون موجود معه على المسرح ..
نعم هذا ما كنت اسمعه من الجمهور وهذا فخر لي .. يمكننا ان نقول انه امتداد لذات الوتيرة ( نشكر الرب)
– انها نعمة وبركة ان تستمر مسيرة الراحل من خلال أبنائه
كل ذلك بفضل الرب ومحبة أمثالكم .. – بالمناسبة تجمعنا صداقة مع آل العريضي منذ زمن بعيد .. لا سيما مع المحامي والشاعر الكبير عصام العريضي، صاحب الموهبة الكبيرة .. لبنان مليء بالمواهب والطاقات الجميلة .. هذا هو لبنان بالنسبة لنا .. لبنان الذي نصّدر منه النور والفن والجمال والأخلاق والعلم والتفوق على الذات.
4- تحّمل مسؤولية الفن الهابط للمال “الوسخ” بدعم من الإعلام الذي يتآمر على حضارتنا وتاريخنا وترُاثنا .. هل تظن انه لا يزال هناك فرصة لإنقاذ ما تبقى من هذا الإرث ؟
الوسخ ينفق امواله على شبيهه ..فالمال الوسخ الذي يُنفق على ما يسمى “فن ” هو ليس سوى الفن الوسخ .. الإعلام مأجور لم يعد حرّ.. جُلّ ما يهدف اليه هو كسب المال وليس لديه هدف المهنة التي هي الأساس… وفي خطوة كمحاولة لإنقاذ الإرث، فقد وقعّت مؤخراً مع جامعة روح القدس – الكسليك على اتفاقية للحفاظ على ميراث الوالد الفني في مكتبتهم ووضع هذا الإرث في متناول اليد لأي بحث او نشاط ثقافي وعلمي.. انا احاول بقدر المستطاع ان انقذ الإرث ولكن لا استطيع ان افعل ذلك لوحدي في ظل غياب الدولة والإعلام الحكومي المستقيل ورجالات الدولة الذين اتوا بشكل شخصي وهم لا يمثلوا الشعب على الإطلاق ولا يمثلوا الدولة وواجباتها.
لا يمكن ان ننسى من نكون وما نحن عليه ويجب علينا ان نناضل من اجل الحفاظ على هويتنا…
5- هل لديكم عتب على المستوى الرسمي أو الشعبي على التقصير تجاه الراحل وديع الصافي في حياته وفي مماته تحديداً ؟
المستوى الرسمي غير موجود .. لا وجود للدولة .. الدولة غائبة .. غائبة ..
– هل تعتقد ان بعض الأطراف السياسية في الدولة الى جانب شريحة من الجمهور حاسب الفنان وديع الصافي على مواقفه وعلاقاته وصداقاته مع زعماء لبنانيين وعرب ؟
الدولة تخلت عن القيم منذ زمن بعيد .. فاليوم لا وجود للدولة .. واضيف لو ان وديع الصافي كان قد بدأ مشواره الفني منذ عشرين سنة او أقل لما كان أحد عرفه او سمع به … إنما في ذاك الوقت حين برز وديع الصافي كانت هناك إذاعة الشرق الأدنى ومن ثم أصبح اسمها الإذاعة اللبنانية.. في ذاك الوقت كان من يعمل بمجال الفن .. فقط من اجل الفن من دون اي شكليات أو مصالح وكان يؤدي عمله الفني بكل تفوّق على الهواء .. اما اليوم أصبح الهواء ماجوراً وكذلك الصحافة التي أصبحت نوافذ للإيجار ولم تعد صحافة حرّة بل أصبحت مرتبطة بمن يدفع اكثر – وبالطبع لا أوجه الكلام لأمثالكم لأنكم أنتم من القلائل الذين لا يزالوا يلقوا الضوء على الحقيقة من دون غاية او مصلحة … ولكن بالفعل أصبحت معظم المؤسسات الإعلامية مأجورة وهذا ما يضلل الرأي العام ” وعم بضيع تعب والدي”.
6- نظمت الجمهورية العربية المصرية تأبين للفنان الراحل وديع الصافي في دار الأوبرا شاركت فيه شخصياً وكذلك الجالية الإسترالية نظمت تأبين اقتصرت مشاركتك معهم من خلال كلمة مؤثرة جداً وجهتها للجالية هناك.. لماذا دائماً اللبناني يُقدر أكثر خارج اراضيه؟
لقد أبدعت الجالية الأسترالية في هذه المناسبة .. فقد وصلني مؤخراً شريط فيديو عن المناسبة التي كانت تليق بالفنان الراحل.. الحقيقة ان فعاليات المغتربين فعلت ما لم يفعله المواطن المقيم ولهم جزيل الشكر على ذلك.. وديع الصافي لطالما خصص اعمال كثيرة موجهة للمغترب اللبناني كي يبقي لبنان في ذاكرتهم وتوجه لهم بالكلام المباشر ولهم كان الجزء الكبير من انتاجه … وبالتالي المغترب حافظ على ذكراه العطرة وما فعلوه هو لا ينم على شيء سوى على اصالتهم الطيبة ..” مشكورين”.
7- تقول إنك لم تُظلم بمؤازرة والدك في مسيرته الفنية بل على العكس الله كافأك حين كرّت مسبحة الأعمال والحفلات وأصبح لديك جمهور خاص بك .. أخبرنا عن أعمالك الخاصة ولا سيما أغنية ” وينك يا حبيي” التي لها ميزة خاصة لديك والتي ابكتنا جميعاً.
الاغنية المصورة على طريقة الفيديو كليب على الرغم من بساطتها كانت مؤثرة .. تراه فيديو مختلف عن كل ما نشاهد لما يحتويه من صدق وطهارة وقيم وهذا الشيء الذي يميزنا..
البعض يقول إني ظُلمت من المحبين والفنانيين الكبار، ولكني اقول لم اكن ما عليه الآن لو لم أرافق والدي بهذا الشكل كل تلك المدة.. انا جداً فرح بما قدمته وبما انا عليه اليوم، وأفضّل ان أبني على هذا الشيء وأضيف على نفسي .. ولكن من المؤكد انني لولاه لما كنت .
هذا العام قدمت عملاً جميلاً جداً لسوريا بعنوان ” سوريا الله حاميها” كما انجزت عمل للسيد الرئيس بشار الاسد اكثر من رائع .. العمل أشبه بالزفاف والإحتفال الضخم .. يقول مطلع الاغنية ” يا بشار الأسد جيشك حامي البلد يا بشار هالله هالله .. نصرك من سما الله وشعبك عم ينده الله الله معك يا أسد”… وفي المقطع الأخير يقول:” شعب مقاوم من لبنان ساند شعبك بالميدان ودمرتوا قلب العدوان لي كلو غيرة وحسد”.
– لماذا خصص الرئيس بشار الاسد وسوريا هذه الميزة لآل الصافي تحديداً دون سواهم ؟
لأننا نحب بصدق وليس لنا مصلحة مع أحد… ما ان قدّمت اقتراح العمل حتى جاءت الموافقة سريعاً في حين لم يحظ الكثير بهذه الموافقة رغم المحاولات
– لطالما جمعت صداقة متينة بين بيت الاسد وبيت الصافي !
نحن منفتحين على الجميع .. فمنهم من يبادل هذه المحبة ومنهم لا يقّدر
– وعلى الصعيد الشعبي يملك آل صافي جمهور كبير في سوريا .. ماذا تقول لسوريا الجريحة اليوم؟
جرح سوريا هو جرحنا ايضاً ومصابها هو مصابنا .. تعتقد بعض الأبواق الفارغة في لبنان انهم بمعزل عن الأزمة السورية في ظل هذا الهجوم الهمجي الذي تتعرض له سوريا .. هذا الهجوم الذي تموّله دول كبيرة بمئات الالاف من الدولارات وتكريس محطات اعلامية عالمية ودول عظمى تدعم هذا الهجوم .. كيف يُعقل ان يفكروا بالإنعزال عن هذه الأزمة التي تطال كل العرب .. ما هذا الغباء والتآمر والخزي الذي يعيش به البعض.. هؤلاء باعوا الوطن..
نسمع اصواتاً تنادي بحكم الأخوان بديمقراطية .. وهنا اتساءل عن اية ديمقراطية يتكلم هؤلاء .. هل ديمقراطيتهم تشّرع لهم قتل اخيهم الإنسان .. اخيهم المسلم قبل الآخرين..
8- كلمة أخيرة في ختام هذا اللقاء.
لن يكون هناك كلام اخير ..بل كلام يتجدد وحب يتجدد وتبادل تقدير متجدد ومستمر .. الأمير طلال هو اشبه بالذهب .. والذهب لا يتبّدل ولا يتغير .. ” الله يكثّر من أمثاله” .. الوطن بحاجة لمخلصين أمثاله .. والأوطان لا تقوم الا بوجود مخلصين أمثال هؤلاء الرجالات هو ووالده الأمير مجيد أرسلان ..!