لبنان بلا رئيس للجمهورية لليوم الثاني والسبعين على التوالي. وإذا كانت أشكال عدة من الاضطراب قد ملأت الفراغ في المرحلة السابقة، فإن مقاتلي “النصرة” و”داعش” قرروا أن يملأوه هذه المرة على طريقتهم الدموية، وتحديداً من بوابة عرسال التي ستشكل في المرحلة المقبلة معبراً إلى الاستقرار أو الفوضى.. لبنانياً. ما كان متوقعاً منذ فترة حصل فعلاً، والسيناريوهات التي كانت ترسم للمنطقة البقاعية الواقعة على خط الزلازل الإقليمي دخلت حيز التنفيذ العملي. حشود المسلحين السوريين و”الأغراب” التي كانت تنتشر في جرود عرسال أو تتلطى خلف النازحين السوريين في قلب البلدة نفسها، تحركت دفعة واحدة وهاجمت مراكز الجيش الذي فقد المبادرة لبعض الوقت قبل أن يستعيدها مجدداً، ليشن هجوماً مضاداً استرجع خلاله العديد من مراكزه الحيوية في التلال ومحيط البلدة، فيما بقيت عرسال رهينة آلاف المسلحين الذين انتشروا في أحيائها، واتخذوا من أهلها دروعاً بشرية، لا بل أقدموا على قتل عدد منهم، فيما كانت دروب البلدة ـ المدينة، تشهد حالة نزوح الى قرى الجوار. هذه المجريات وضعت الجيش أمام خيارات صعبة حيال التعامل مع وضع عرسال المخطوفة، إذ ان البلدة تضم عشرات الآلاف من السكان المغلوبين على أمرهم، وأعداداً مماثلة من النازحين السوريين الذين خرج من مخيماتهم مسلحون كثر احتلوا البلدة وتوزعوا في أرجائها، ما يعني أن أي حسم عسكري ضدهم سيكون مكلفاً للبلدة وأهلها. وفي المقابل، تبدو هيبة المؤسسة العسكرية والدولة على المحك ايضا، لان أي قبول بالتعايش مع الوضع المستجد في عرسال، لا يعني سوى الرضوخ للأمر الواقع والقبول بسلخ منطقة عزيزة عن الجغرافيا اللبنانية لتصبح بعهدة المعارضة السورية، مع ما يرتبه ذلك من انعكاسات خطيرة على صورة الجيش و”بقايا” الدولة واحتمالات الاندراج في خانة “دولة الخلافة”! الحريري.. والموقف المنتظر ولا يبدو التحدي الذي يواجه الجيش عسكرياً فقط، ذلك ان الغطاء السياسي يشكل “نصف المعركة”، ومن دون اكتماله سيكون ظهر المؤسسة العسكرية مكشوفاً. وهنا، تتجه الأنظار الى ما يمكن أن يقوله ويفعله الرئيس سعد الحريري الذي اتصل بالعماد جان قهوجي، فيما كان عدد من نواب تياره يشنون، أمس، هجوماً سياسياً قاسياً على الجيش. والأكيد أن الحريري يعرف جيدا ان هذه المرحلة لا تحتمل رمادية في صوغ الخيارات، وبالتالي عليه أن يحسم موقفه بشكل لا ينطوي على أي التباس، وأن يؤمن التغطية التامة للمؤسسة العسكرية في معركتها، لان مظلة تيار المستقبل حيوية وضرورية، ولا يمكن أن تعوّض أو تُستبدل، بالنظر الى ما يمثله “المستقبل” على مستوى الشارع السني والعلاقة مع أهالي عرسال. ولعل أسوأ ما تعرّض له الجيش في معركة عرسال لم يكن مصدره المسلحين فقط، ذلك ان ما أدلى به عدد من السياسيين، لا سيما بعض نواب الشمال المنتمين الى كتلة المستقبل، ليس أقل وقعاً ووطأة من رصاص المجموعات الإرهابية. وما صدر عن هؤلاء هو أولا برسم الحريري، فإما أنه يغطيهم، وإما ان ما أدلوا به لا يعبّر عنه، وعندها يكون مطالباً بلجمهم، ومن ثم حسم هوية الناطقين الفعليين باسم “المستقبل”. لا يمكن بأي حال تبرير هذا الاعتداء السياسي والمعنوي على الجيش في لحظة يخوض فيها معركة مصيرية ضد الإرهاب، وإذا صح ان هناك أخطاء ارتكبها، فإن المسؤولية الوطنية تفترض تأجيل الخوض فيها الى ما بعد انتهاء المواجهة.. ودمل الجرح النازف. الرد.. ومعادلة الاستقرار وقد ثبت من خلال العملية المنظمة التي استهدفت مواقع الجيش ان ما حصل ليس مجرد رد فعل على اعتقال أحد أبرز القياديين الإرهابيين عماد جمعة، بل هو أتى في سياق مخطط مُعّد سلفا للتمدد، ربما يكون توقيف جمعة قد سرّع في تنفيذه، ليس إلا. وفي هذا السياق، يمكن القول ان ما يجري في عرسال وجرودها منذ يومين خطير جدا، ويتصل بالأمن القومي اللبناني مباشرة وبمعادلة الاستقرار، وبالتالي لا يجوز بتاتا التعاطي معه بذهنية الحسابات الضيقة وثقافة الزواريب السياسية التي تحاول الاستثمار على دماء العسكريين والمدنيين لتحقيق مكاسب رخيصة جدا. وبرغم خطورة التطورات في عرسال، فهي قد تكون مجرد بداية لسيناريو أسوأ، إذا تحركت الخلايا المستيقظة أو النائمة في مناطق أخرى، ربما توحي خريطتها لبعض المغامرين بإمكان تأسيس “إمارات” أو ما شابه، وما حصل في طرابلس من اعتداءات على مراكز الجيش، أمس الأول، لم يكن سوى جرس إنذار، يُفترض عدم الاستخفاف به. ولأن المخطط المرسوم خطير، يصبح ما فعله الجيش في مواجهته أوسع بكثير من حدود التصدي الميداني لمجموعات مسلحة. لقد افتدت المؤسسة العسكرية بدماء عناصرها السلم الأهلي والسيادة الوطنية الحقيقية والعلاقة السنية – الشيعية، وحالت دون وقوع الفتنة المذهبية المدمّرة للجميع. وبقدر ما نجح الجيش حتى الآن في اختبار المواجهة العسكرية مع الإرهاب، نجح أيضا في تأكيد تماسك صفوفه ومناعتها برغم كل محاولات اختراقها وتفكيكها، عبر تحريض بعض الأصوات على المؤسسة العسكرية وحضّ أبنائها من الطائفة السنية على الانشقاق عنه. ومن شأن إلقاء نظرة سريعة على هويات الشهداء والجرحى العسكريين وانتماءاتهم المناطقية، أن يعطي فكرة بليغة حول صلابة النسيج الداخلي للجيش وعدم تأثره بالأصوات النشاز التي تحاول التشويش عليه. بري: لبنان على المحك وفيما جرى البحث ليلا في إمكان التوصل الى هدنة، علمت “السفير” أن اتصالات جرت مع الرئيس نبيه بري وشارك في جزء منها نائب “الجماعة الإسلامية” د. عماد الحوت، سعياً الى تحقيق وقف لإطلاق النار، فأكد رئيس المجلس انه لا يمكن الحديث عن أي أمر من هذا القبيل قبل انسحاب المسلحين من عرسال وإطلاق سراح العناصر الامنية والعسكرية المختطفة، وبعد ذلك فقط يمكن الكلام في أي شأن. وقال بري لـ”السفير” ان مصير البلد على المحك، ولا يحتمل أنصاف المواقف أو الميوعة في الخيارات، مشددا على أهمية الالتفاف الشامل حول الجيش ودعمه بكل الوسائل والأشكال من دون أي تحفظ أو تردد. وأبدى ثقته في قدرة الجيش على إعادة الأمور الى نصابها في عرسال ومحيطها، لكنه أعرب عن قلقه من حدوث تطورات مباغتة في مناطق أخرى قد تملك المجموعات الإرهابية فيها قدرة أكبر على التحرك وتحقيق الربط بين نقاط وجودها، مستفيدة من طبيعة الجغرافيا والديموغرافيا. وشدد على ضرورة الإسراع في تطويع عناصر جديدة في الجيش وتسليحه بعتاد نوعي، وليس ببنادق أو سيارات جيب. وأبدى ارتياحه لما صدر عن العديد من أبناء عرسال من تعاطف مع الجيش ورفض لممارسات المسلحين، لافتا الانتباه الى ان عرسال كانت وتبقى بلدة وطنية، وإن يكن قد غُرر الى حين ببعض أبنائها. وأعرب عن استيائه الشديد من الكلام الذي صدر عن البعض ضد الجيش، مشيداً في المقابل بما أدلى به النائب وليد جنبلاط الذي أثبت مرة أخرى أنه لا يخطئ البوصلة في المحطات المفصلية. المشنوق: مع الجيش بلا نقاش وقال وزير الداخلية نهاد المشنوق لـ”السفير” ان خيارنا الأول والدائم والأكيد هو دعم الجيش في كل ما يراه مناسبا لإنقاذ عرسال وأهلها، والمدنيين من النازحين السوريين، “وهذا خيار لا يخضع للنقاش، وأي كلام آخر هو اجتهاد في غير مكانه وزمانه”. وشدد المشنوق على وجوب خروج المسلحين السوريين من عرسال وإيجاد إجماع سياسي في جلسة مجلس الوزراء اليوم حول الخطة التي يقرر الجيش اعتمادها لتحرير عرسال المحتلة، لافتا الانتباه الى أن الوضع العسكري صعب، والجيش وحده يقرر ما الذي يجب فعله، ونحن نقف سلفا الى جانبه، وهذا ما أبلغته للعماد جان قهوجي. وكشف ان اللواء محمد خير كُلف بإجراء الاتصالات السياسية للبحث في إمكان التوصل الى هدنة. قهوجي: الجغرافيا اللبنانية كلها مهددة وفي مؤتمر صحافي نادر لقائد الجيش يعكس خطورة الوضع، قال العماد جان قهوجي ان ما حصل أخطر بكثير مما يعتقده البعض، وان الهجمة الإرهابية التي تمت كانت محضّرة سلفا، مشددا على أن الجيش جاهز لمواجهة كل الحركات التكفيرية. ونبه الى أن الخوف هو من أن يحاول البعض نقل السيناريو الذي حصل على الحدود العراقية – السورية الى لبنان، والجيش لن يسمح بذلك. وحذر من احتمال انتقال عنصر المباغتة من مكان الى آخر، بحيث تصبح كل الجغرافيا اللبنانية مهددة بالخطر. ودعا الى معالجة وضع النازحين لئلا تكون مراكز وجودهم بؤرة للإرهاب. وكان الرئيس تمّام سلام قد ترأس اجتماعاً أمنياً استثنائياً في السرايا، عرض خلاله قادة الأجهزة آخر المعطيات المتعلقة بالاعتداء على السيادة اللبنانية في بلدة عرسال وجوارها، والجهود المبذولة من الجيش والقوى الأمنية لمواجهة المخطط الذي بدأ المسلحون الإرهابيون بتنفيذه في المنطقة
السفير : الخيارات العسكرية تنتظر تغطية سياسية.. ناقصة! عرسال أسيرة.. والجيش يفتدي لبنان بدمائه
0