يتصرّف المجتمع السياسيّ اللبنانيّ مع معظم القضايا الرّاهنة، على أنّ لبنان ساحة سائبة، وليس جمهوريّة كيانيّة كائنة منبثقة من دستور يحدّد عمل المؤسّسات فيكون ضابط إيقاعها وناظم حراكها، فمنها من يراقب دستورية القوانين في انعطافها ويحدّد برقابته تجلياتها أو تداعياتها. ما يشي بهذا الشعور الضاغط حتى الاحتقان ومن ثمّ الانفجار، تراكم الملفّات فوق بعضها لتصير جزءًا من تشتّت عميم يشاهَد بوضوح من الجميع، فلا تحرّكهم قسوة الانهيار والتبعثر، ولا عقم الحلول وما انتهت إليه من تعثّر، وتدفعهم نحو خطاب سياسيّ تجديديّ-إنقاذيّ، ممّا أدخل الجمهوريّة اللبنانيّة في ارتجاج وجوديّ، وتفكّك سياسيّ، وتدهور أمنيّ، وفساد إداريّ، واهتراء اقتصاديّ، وفساد بشريّ، وانحدار قيميّ. وكلّ هذا يتغلغل سعيدًا متماهيًا مع صراع خارجيّ، استهلك المنطقة بأسرها، فبات صعبًا فصل الخطاب الداخليّ عن الخارج، ليصير الداخل ذلك المسرح الذي استطابه الخارج، في انبثاثه بمفردات الأزمة السياسيّة-الكيانيّة في الداخل.
فحين يُتكلَّم عن الخلل البنيويّ نكون حينئذ أمام انشطار واضح للمناصفة الفعليّة، للشراكة البلوريّة ما بين المسيحيين والمسلمين. الانشطار الحاصل هو قضيّة القضايا، لأنّه غير محصور في الداخل اللبنانيّ، بل هو لغم عاد لينفجر في إطار الصراع المذهبيّ بين الشيعة والسنّة، والصراع العموديّ بين السنّة أنفسهم في المدى العربيّ، فيستهلك الانفجار المسيحيين وكأنّهم مطيّة وليسوا وجودًا شريكًا ينبغي قراءته بتاريخانيّته المطلقة، أيّ تاريخانيّة التأسيس وتاريخانيّة الشراكة، ذلك أنّ التأسيس أباح الشراكة، أو ما تمّ الاصطلاح على تسميته بالديمقراطيّة التشاركيّة.
ما توضّح للرأي العام المتابع، بأنّ الفراغ في رئاسة الجمهوريّة لا يفسّر سوى أنّه نتيجة لخيارات قاتلة فُرضت على لبنان بالتماهي ما بين الداخل والخارج، فإمّا أن يأتي الرئيس طبقًا لحالة تسووية موحاة، أو لا يأتي أبدًا. فيكون مجيئه على حساب الجمهوريّة المفتقرة لإصلاحات جذريّة تؤجّل من سنة إلى سنة، من عهد إلى آخر، من حقبة إلى أخرى. ويفحص كثيرون واقع الطائف، ولا يصدّقون بأنّ الطائف وُجِد كمرحلة تسوويّة انتقاليّة، وليس كحالة تكوينيّة، لها ديمومتها التطبيقيّة والتجسيديّة في العمق الدستوريّ والقانونيّ والمؤسساتيّ والشرعيّ. وبعضهم قال بأنّ الطائف وئد حين ولد ولم يبقَ منه سوى الشكل أي الورق والبنود المعلّقة على خشبة الضياع والسراب العبثيّين.
كلّ القضيّة أن لا أحد يريد رئيسًا فاعلاً وقويًّا للجمهوريّة يمتلك القدرة من حيثيّته التمثيليّة على التواصل بوضوح مع الطوائف الأخرى، معيدًا الاعتبار بهذا التعاطي للأنموذج التكوينيّ والميثاقيّ في معالجة الملفّات ومنها ما هو أمنيّ كما هو حاصل اليوم في هذه المسائل المعقدة التي تحاصرنا في جرود عرسال.
ما يؤلم بالفعل، هو ذلك الضياع المتشرّش في معالجة الملفّات. فننتظر تسويق رئيس دائرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الخارجية الفرنسية جان فرنسوا جيرولمرشّح يحوز صفة التوافقيّ، وينطلق بعملية التسويق مع الإيرانيين الذين أجابوه بوضوح تام: “لا تفرض على المسيحيين ما لا يريدونه لأنفسهم”، فتعود الكرة إلى ملعب فريق يعيش بدوره حالة انقسام عموديّ أجوف، ويتلاشى هذا الفريق في مهبّ الصراعات الأخرى، فيما الحاجة تبقى ماسّة لوقفة تاريخيّة بطوليّة تعيد الجمهوريّة إلى لبنان، وتعيد المسيحيين إلى رئاستها، فيبقى المسيحيون مطلاًّ عزيزًا للمسيحيين العرب والمشارقة فيما هم اليوم الجرح غير المندمل. وفيما ننتظر تسويقًا من جيرو أو نائب وزير الخارجية الروسيةميخائيل بوغدانوف، يبقى البلد مخطوفًا من تنظيم وجبهة إرهابيين مع اختطاف العسكريين وبقائهم رهينة الموت العبثيّ. وفي مهبّ الضياع عينه انتظر اللبنانيون أن تحمل مهمّة الموفد القطريّ بشائر الخير لهم بعامّة ولأهالي المخطوفين والمخطوفين بخاصّة فإذ بمهمته محصورة بمواطنة ومسؤولة قطريّة فقط. أعدم علي البزال بإجرام وحشيّ لامتناهي، فعادت الأمور إلى المربع الأسود، فسقطت السلطة السياسيّة صريعة الخوف والهلع، وحلّت مكان الموفد القطريّ هيئة العلماء المسلمين الذين مثّلوا دورًا ملتبسًا في معركة عرسال ممّا أدى إلى خطف العسكريين…
المأساة التراجيديّة القصوى التي بلغناها في هذا الاصطفاف المقيت، أننّا نعيش بلا مضمون يمكنّنا من الحسم السياسيّ والأمنيّ والعسكريّ. المشكلة بنيويّة في قلب الحكومة، في قلب النظام السياسيّ الهشّ والمعطوب، في سلطة سياسيّة لم تتماه مع الجيش بمأساته سوى بالقول اليسير والفعل العسير. فتأتي المقايضة الشاملة الخالية من شروط، المنطلق البديل بلا تدقيق ولا رؤى متوازنة، فيخرج نزلاء سجن روميه على سبيل المثال، ولكن إلى أين يخرجون؟ ماذا تفعل الدولة بعمر الأطرش وعماد جمعة وجمال دفتردار ونعيم عبّاس وجومانا حميّد؟ هل يطلق سراحهم بلا محاكمات تذكر؟
كلّ هذه العناوين تؤشّر بشكل واضح، إلى أن الجمهوريّة اللبنانيّة مخطوفة. مخطوفة من الفراغ، من السياسيين المحليين، من القوى اللاعبة الكبرى، من “داعش” و”جبهة النصرة”، مخطوفة من اللبنانيين أنفسهم الذين سقطوا من إحساسهم الوطنيّ، وباتوا مجرّد نزلاء أجراء في مزرعة يملكها أقطاب سياسيون لا يتعاطون مع لبنان كوطن وجمهورية ودولة بل كساحة مقطعة الأوصال، منقلبين على الدستور بالتمديد للمجلس النيابيّ، حاجبين عن الجيش اللبنانيّ قرار المواجهة والاستمرار بها حتّى النفس الأخير. هم من لا يفقهون أين تكمن مصلحة لبنان في هذا الصراع، ويوغلون في أحقادهم بدلاً من الاحتكام إلى التشخيص السياسيّ الاستراتيجيّ في اجتماع المصالح إلى بعضها وبخاصّة ما يختصّ بالقضاء على الإرهاب من جذوره من جرود عرسال إلى جبال القلمون.
لا ينقذ الجمهوريّة اللبنانيّة في الواقع الراهن سوى اتفاق مسيحيّ-مسيحيّ بالدرجة الأولى، ومسيحيّ-إسلاميّ غايته إعادة الجمهوريّة إلى لبنان، وليس إلى وصايات تتحكّم بنا، وإعادة المسيحيين بسيادتهم شركاء حقيقيين بكل ما تملكه مفردة الشراكة من معنى، إلى رئاسة جمهوريّة لا يكون فيها الرئيس حكمًا بل حاكمًا عادلاً بالتوصيف الميثاقيّ المتوازن، وقانون انتخابات يعيد الاعتبار إلى المادة 24 من الدستور إذا ما رمنا إعادة الروح للطائف. والأمر الأخير المكمّل، أن لا نرضخ لمقايضة هشّة تمزّق الجمهورية إربًا إربًا، أو تجعلها أشلاء مبعثرة، بل كرمى للمخطوفين من الجيش، ومن أجل استعادتهم محبة بلبنان، ينبغي التوجّه إلى عملية نوعيّة تحرر المخطوفين وتجعل جبين وطننا عاليًا مكلّلاً بالضياء.