قلب أوروبا مغلق أمنياً: عائلة عبد السلام والذئب «الداعشي»

لا تعليق
آخر الأخباردولية
5
0
باريس

دزينة من عربات الجيش المصفّحة كانت تتدرج من الشارع المحاذي لمحطة القطارات المركزية، تسرّبت إحداها خارج الرتل لتدخل الساحة الصغيرة أمام مدخل المحطة. الجنديان الخارجان من حجرتها سحبا بندقيتيهما، ليثبتا فيها فوراً مخزني الذخيرة، قبل أن تغادر عربة زملائهم التي أكملت نوبتها. لحظة تبديل الدوريات جاءت لتذكّر العابرين بأنَّ الخطر مقيم في المنطقة الحمراء، هنا في عاصمة الاتحاد الأوروبي.
بعض السيّاح تعايشوا مع الأمر الواقع. راحوا يرسلون «سيلفي الطوارئ»، مع صور معالم سياحية لم يكونوا ينتظرونها. لم يختلف الكثير عليهم مع تبديل الدورية. العربات الزيتية الضخمة نسخة من بعضها، صارت تذهب وتأتي عابرة بين البيوت والمقاهي والمتاجر التي بدأت تتآلف مع وجودها. ألف عسكري تم نشرهم لمؤازرة الأمن والشرطة. بروكسل تقلب اليوم الثالث من روزنامة رفع درجة التهديد الإرهابي إلى المستوى الرابع. إنَّه المستوى الأعلى الذي ينبّه من هجمات «مرجحة ووشيكة الحدوث».
لم تتوقّف السلطات عن تكرار ترجمة ما يعنيه ذلك للمواطنين. وجدت من الملحّ أن يكونوا في وعي تام لحجم الخطر المحيط بهم: لدينا معلومات دقيقة عن مخطط لتنفيذ هجمات، على أيدي شبكة إرهابيين في أكثر من مكان، ابتعدوا عن أماكن التجمّع لأنَّها مستهدفة. باختصار ضروري لرسم ملامح حيّة للتهديد، ردّد رئيس الوزراء البلجيكي شارل ميشيل: نحن نعمل لإحباط نسخة من هجمات باريس.
إنَّها مرحلة أمنية جديدة تماماً فرضها تنظيم «داعش» في قلب أوروبا، بعدما افتتحتها بنجاح دموي صادم في اعتداءات العاصمة الفرنسية. العيون باتت مصوبة لأيام على عاصمة الاتحاد الأوروبي، حيث تتمركز مؤسساته الرئيسية، علاوةً على كونها مقراً لحلف شمال الأطلسي الذيّ قيّد حركة ضباطه. نجاح ضربة إرهابية هنا، وسط كل هذا الاستنفار، سيكون إخفاقاً أمنياً لا يغتفر. قلق وزراء مجلس الأمن الوطني في بلجيكا، خلال اطلاعهم العالم على ما يحدث، كان يقول الكثير عن خوفهم من هذا الكابوس.
كانت كاترينا مراقبة مشهد تبديل دوريات الجيش، غير المسبوق، متحدثة عن أفكارها مضطربة: «المفترض أن أحسّ بالأمان مع ازدحام الشرطة والجيش، لكني لا أعرف. هذا يجعلني أشعر أنَّ هناك شيئا ما سيحدث، لا أعرف متى ولا أين». لم تتجاوز هذه الشابة منتصف العشرينيات، لكنّها تتفهّم إجابة العابرين بأنواع النفي حينما يواجهون بسؤال «هل أنت خائف؟». تقول إنه شيء من العادة الإنسانية برفض الإقرار بالضعف.
من خرجوا إلى شوارع التسوّق، باحثين عن مقهى أو فرجة، يتحدون أصلاً نصائح السلطات بالابتعاد عن أماكن التجمع. تراسات المقاهي في باريس كانت هدفاً رئيسياً. بعض العابرين على طاولاتها في بروكسل كانوا يبتسمون لوسائل الاعلام، يقولون ببعض التباهي إنَّهم لن يتركوا الخوف ينال منهم. «لا شيء يحدث، الوضع هادئ كما ترون»، قال أحدهم. صوت من رفضوا النزول كان لديه منطق آخر: الوضع يبدو طبيعياً، هادئاً تماماً، لكنَّه كان كذلك بالضبط وسط باريس قبل أن تقع المصيبة.
فرانك الخمسيني، خرج ليرى المدينة كما لم يرها يوماً: «ما فهمناه أنَّ هناك إرهابيين خطيرين لا يزالون في المدينة، الشوارع خالية، حتى أحواض السباحة مغلقة، المدينة ميتة تقريباً». شبكة الميترو مغلقة. مرّ يوم السبت، جاء الأحد، العطلة الأسبوعية تنتهي، فيما المدينة المشلولة تعيش على إيقاع فرَضَه الإرهابيون. رجل حزين كان يقف أمام متجر مخالفٍ لصفّ المتاجر المغلقة. واصل تأمّل الشوارع الخالية وهو يستمع إلى السؤال، تنهّد من قلب أفكاره «لقد هزمونا، نحن خائفون».
ليسوا نادرين من قالوا إنَّ كل هذا «مبالغة». السلطات بذلت بالفعل جهداً معتبراً لإقناع الناس بالبقاء متيقّظين. كل هؤلاء الغائبين عن الشوارع، تلك التي تركوها فارغةً تقريباً في أيام اعتادت فيها الازدحام، التزموا بترجمتهم الحرفية لكلمات التحذير المفتاحية «مرجح ووشيك الحدوث». لا أحد منهم يريد أن يحسب ليومه على أساس أنَّه ربما يقابل انتحارياً في طريقه.
أبواق سيارات الشرطة لم تتوقّف. بعضها كانت تمشي كاتمة أبواقها ومطفئة ومّاضتها الزرقاء. لا حاجة للمزيد منه، فهناك ما يكفي من الذعر. يوم الدوام الدراسي على بعد ساعات، والجميع يريد أن يعرف كيف سيعيش يومه التالي؛ مجلس الأمن الوطني يعلن قراره بعد تلقي نصيحة مركز الأزمات.
المركز مختصّ بتقييم مستوى التهديد. منذ هجمات باريس، باتَ قادة أجهزة الاستخبارات والشرطة يجتمعون ظهر كل يوم. بعد إعلان حالة الاستنفار في بروكسل، صاروا يقيّمون نتائج العمليّة الأمنيّة، ليزنوا حجم التهديد الماثل وكيفية مواجهته. القرار حمله رئيس الوزراء: التهديد لا يزال في المستوى الأعلى.
تحدثت «السفير» إلى مسؤول في مركز الأزمات، قبيل اجتماع يوم أمس. ليس المسؤولون الأمنيون هم من يقررون في النهاية، بل يضعون «عدة خيارات» أمام وزراء مجلس الأمن الوطني: «النصيحة في النهاية تكون: هذا ما نواجهه، ويمكننا فعل واحد أو اثنين أو ثلاثة». من الواضح أنَّ القرار السياسي، لرئيس الحكومة وبعض وزرائه، بمواصلة اعتماد الرد الأقصى، يؤكّد أنّهم يرون خطراً لا يحتمِل أيّ تساهل.
هكذا مرّ أول يوم دوام رسمي على وقع كابوس الهجمات. أغلقت المدارس والجامعات لأوّل مرة، كما فعلت الشيء ذاته العديد من الشركات ومتاجر التسوق. طبعاً فتحت أبوابها متاجر الأغذية ومطاعم ومقاه، لكن الناس خرجوا بالحد الأدنى. تعطّلت الكثير من رحلات القطارات، فيما بقيت شبكة قطار الأنفاق (الميترو) مغلقة رغم كونها تمثّل شريان التنقّل للمدينة. كان مركز الأزمات يدرس فتح «الميترو»، مع إبقاء مدخل واحد لكلّ محطّة وإغلاق البقية، لكن التعقيدات المحيطة بتنفيذ ذلك جعلت خيار الإغلاق هو الأفضل.
ثمّة حرص شديد على عدم تسرّب أيّ معلومات، لكن هناك ملامح عريضة واضحة. المسألة تخصّ شبكة إرهابيين ينسّقون مع داعمين خارجيين، ولا تتوقّف فقط على صلاح عبد السلام. صحيح أنَّه المطلوب رقم واحد في أوروبا الآن، مع الاشتباه الكبير بتورطه في هجمات باريس إلى جانب شقيقه الانتحاري ابراهيم، لكن السلطات البلجيكية أكَّدت أنَّ إلقاء القبض عليه، لن يعني إنهاء التهديد.
حكاية هذه العائلة باتت جزءاً من قصة أيام الكابوس البروكسلي. وسط كلّ الصخب الذي كان في مركزه، تحلّى الشقيق الثالث محمد عبد السلام بجرأة استثنائية، ليفتح باب بيتهم ويخاطب وسائل الإعلام الدولية. عمره 29 سنة، وهو الأوسط بين ابراهيم الكبير وصلاح الأصغر. خلال أيام الاستنفار البلجيكي، اختار الخروج في مقابلة تلفزيونية. قال إنَّه يريد القول للعالم إنّه ابن عائلة عبد السلام التي لا يختصرها شقيقاه. لكنّها تبقى عائلة لها ولدان، أحدهما لم يبق من جسده شيء، والثاني تتصدر صورته نشرات الأخبار.
قدمته المذيعة بأنّه شقيق الانتحاري والمطلوب الأول، كما أنّه الشاب مع حبيبة «مسيحية» شقراء، تشاركه الوقت في عائلة مهاجرين مسلمة. حينما طال السؤال علاقته بالشقيقين الآخرين، قال فوراً «بالطبع كنت قريباً منهما، إنّهما أخوايّ وعشت معهما». برأيه لم يكونا فريسة مسار تطرف بل «تم التلاعب بهما». قبل شهرين توقّفا عن شرب الكحول وصارا يمارسان الرياضة، وهذه ليست برأي محمد «علامات تطرّف». ما يمكنه أن يقوله لأخيه هو رسالة واحدة: سلّم نفسك «لأنَّنا نفضل أن نراك في السجن وليس في المقبرة».
أحد جوانب حساسية هذه القصة تكمن في كونها الضدّ لما تروّجه تنويعات اليمين في أوروبا. وسط حالة الخوف المستحقة، يقولون للناس إنَّ أصل هذا الرعب في المسلمين المهاجرين، في محاولة لحشد الرفض تجاه توافد اللاجئين. رئيس الوزراء المجري فيكتور أوروبان خرج ليقول إنَّ هناك «منطقاً ساحقاً» في صلة لا يمكن إنكارها: «كل الإرهابيين هم في الأساس مهاجرون، والسؤال هو متى يهاجرون إلى الاتحاد الأوروبي».
هناك خوف يشكل بيئة خصبة لاحتضان فكرة العدو «الآخر». في حالة الاستنفار البلجيكي يمكن تخيّل كيف سيفكّر بعض المرعوبين، وهم ليسوا قلّة. السلطات خصّصت رقم طوارئ للرد على استفسارات الناس. نحو 300 اتصال كل ساعة يرد عليه 30 موظفاً متفرغاً، في جزء من مبنى مركز الأزمات. أحدهم اتصل ليسأل «لم يعد عندي حليب، هل يمكنني الخروج لأشتريه؟». لم تكن حالته نادرة.
المداهمات أسفرت عن اعتقال أكثر من 20 شخصاً. لا صيد ثمينا. لم يُعثر على أسلحة ومتفجرات. السلطات تنفي هرب صلاح عبد السلام إلى المانيا. هناك رواية جديدة، نقلتها تقارير إعلامية بلجيكية. صلاح تواصل مع خلية «داعشية» في الخارج، قال لهم إنَّه فشل في باريس، لكنَّه سيعوّض مباشرة في بروكسل.
لا يمكن تأكيد ذلك. السلطات تحت ضغوط هائلة، ترفض تقديم أيّ توضيحات. هم أصلاً متّهمون، فجزء من خلية هجمات باريس خطط لها وانطلقت من بروكسل. عليهم الآن الخروج بنتائج واضحة، تبرّر حالة التأهب القصوى التي جعلت الناس تعيش على أعصابها. قالوا سلفاً إنّهم يعملون لتعطيل مخطط ملموس، لديهم معلومات دقيقة حوله، لذا لا يمكنهم الخروج للقول إنَّ أصحاب المخطط لا يزالون طلقاء.
مرّ يوم أمس ولم تحقق العملية الأمنية النجاح القاطع المأمول. تكررت اجتماعات الطوارئ. مجلس الأمن الوطني قرر تمديد حالة التأهب القصوى. ستبقى على الأقل حتى الاثنين المقبل. لكن الحياة لا يمكن أن تبقى متوقفة. ابتداء من الاربعاء ستفتح المدارس، ويعاد تدريجيا فتح خطوط «المترو». خطوة تحتاج احترازا شديدا، لذا ستستقدم الحكومة تعزيزات أمنية من المدن الأخرى. العاصمة تحتاجهم لتضمن أمنها، فهي لا تزال تعيش على إيقاع كابوس الهجمات «الداعشية».