لم تكن الامطار التي هطلت في اليوم الاول من الشهر الحالي مصدر تذمر او تململ من اللبنانيين الذين غالباً ما يعانون الامرّين كلما امطرت السماء خيراتها، لانهم اعتادوا ان يواكب المطر ازدحام سير غير طبيعي، وتشققات وحفر في الطرق، وارتفاع في علو المياه لتغمر السيارات احياناً…
ولكن اللبنانيين في هذا اليوم تناسوا كل ذلك، وارتسمت على وجوههم ابتسامة عريضة حين واكبوا مسار عملية الافراج عن العسكريين المخطوفين لدى “جبهة النصرة“، ووصولهم الى عائلاتهم بصحة وسلامة. بالطبع، لم يكن المشهد شاملاً لان هناك عسكريين آخرين لا يزالون رهائن لدى منظمة ارهابية اخرى هي “داعش”، فيما عادت “جمرة الحرقة واللوعة” الى الاشتعال في قلوب عائلات الشهداء من العسكريين الذين غدرت بهم ايادي خاطفيهم.
ولاننا في لبنان، فإن نجاح هذه التسوية حصده الجميع، فيما كانت قلة قليلة من الاشخاص ستتحمل المسؤولية ويلقى عليها اللوم لو فشلت (لا سمح الله) وادت الى نتائج كارثية. واليوم، بعد انتهاء المسألة وعودة الهدوء الى الناس، وانتهاء “نجوم” الطبقة السايسية من الادلاء بتصريحاتهم، لا بد من وقفة واقعية لمعرفة حصيلة هذه التسوية بمنظار منطقي بعيد عن الحسابات والمحسوبيات.
بداية، غني عن القول ان العسكريين واهاليهم هم اكثر الرابحين في هذه المعادلة، والنهاية السعيدة بعد 16 شهراً من المعاناة لا بد ان تستحق ثمنها. ولكن، لا شك ان المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم كرّس نفسه “رجل المهمات الصعبة”، فهو نجح في ثلاث مناسبات في مسعاه للافراج عن مخطوفين (اعزاز، راهبات معلولا، والعسكريين اللبنانيين)، فيما لم يحصل اي تقدم في قضية المطرانين لانه لا معلومات حولهما. وليست دعوة وزير الداخلية السابق مروان شربل الى توزير ابراهيم سوى خطوة للتدليل على الاهمية التي بات يملكها هذا الرجل في الحياة السياسية اللبنانية. ومن الطبيعي القول ان ادواراً عديدة سيضطلع بها اللواء ابراهيم خلال السنوات المقبلة، وليس بالضرورة ان تنحصر بالشق الامني.
وهو قال انه تلقى دفعة معنوية مهمة من كل من الامين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله ورئيس “تيار المستقبل” سعد الحريري، وهذا ايضاً ربح لهما. فـ”حزب الله” اثبت من خلال التسهيلات التي قدمها، انه يعمل ايضاً من منطلق وطني وليس من منطلق مذهبي او طائفي وهو امر من شأنه ان يخفف الاتهامات اليه (ولو مرحلياً). كما فاز الحزب ايضاً بتمتين العلاقة مع قطر ولو انه على خلاف سياسي معها، وبذلك احدث خرقاً في محاولة تطويقه خليجياً من قبل السعودية.
الحريري بدوره وبتغطيته لابراهيم كسب نقطة مهمة، لان الانطلاق من عدم معاداة اللواء ابراهيم تنعكس ايجاباً عليه ان على صعيد العلاقة بين الرجلين، او لما يمكن لابراهيم ان يساعد به الحريري عند الحاجة نظراً الى شمولية علاقاته والمكانة التي استحوذ عليها لدى الافرقاء الاساسيين في لبنان وخارجه.
على صعيد الدول، كسبت قطر حضوراً معنوياً مهماً كانت بحاجة اليه للعودة الى الساحة اللبنانية، علّها تستطيع التقدم منها الى الساحة الاقليمية. وبدا ان “مونتها” على “جبهة النصرة” اساسية، وهي حاولت ان تخرق الجدار الذي اقيم بين الطائفة الشيعية وبينها بعد الخلاف الكبير الذي قام بين ايران والسعودية. كما حاولت قطر من خلال ما فعلت، تقديم “النصرة” على انها صالحة لتكون ابرز اركان المعارضة السورية عند اتخاذ قرار بالجلوس الى طاولة المفاوضات مع السلطة السورية الحالية.
اما النظام السوري، فكسب ايضاً تعاطف عدد من اللبنانيين الذين كانوا خارج سرب المؤيدين له، خصوصاً وانه لم يطلب شيئاً من لبنان في المقابل، ولو ان “حزب الله” له مكانة خاصة في قلب النظام السوري. وبدا وكأن ما قام به الرئيس السوري وحكومته، بمثابة خطوة اولى نحو دفع الحكومة اللبنانية الى اعادة النظر في علاقتها مع النظام، مستندة الى ما قاله اللواء ابراهيم بصفته مفوضًا من الحكومة اللبنانية ملف العسكريين المخطوفين، حول مساعدة سوريا في هذا المجال.
حتى “جبهة النصرة” كسبت معنوياً ومادياً، فهي اثبتت انها قادرة على ان تستقل عن سواها من المنظمات الارهابية، واعطت صورة انها منظمة قابلة للتفاوض وتعتمد الطرق الدبلوماسية، فيما ربحت بعض العناصر الذين كانوا معتقلين واموالاً تساعدها على قضاء ايام يتوقع ان تكون صعبة.
ولكن، رغم كل شيء، لا يمكن لـ”النصرة” ان تعطي صورة غير ارهابية، فهذه الصفة ستلازمها لانها مسؤولة عن دماء العديد من العسكريين والمدنيين، وهي اعدمت الجنديين الشهيدين محمد حمية وعلي البزال، وبالتالي فإن صفة الارهاب ملازمة لها شاء من شاء وابى من ابى.
وحدها الحكومة اللبنانية كانت الخاسر الاكبر، فهي بدت وكأنها غائبة تماماً عما يحصل، حتى ان رئيسها تمام سلام اعترف في كلمته ان اللواء ابراهيم ادار ملف العسكريين المخطوفين. فأين كانت خلية الازمة وهل اكتفت فقط بالاطلاع على المفاوضات وتبلغ المعلومات والمعطيات دون القدرة على التدخل او البت بأي امر، سوى اطلاق سراح بعض المعتقلين والذين وردت اسماؤهم ضمن التسوية، علماً ان الكثيرين جزموا بأن هذه الخطوة كان يمكن ان تتخذ دون الرجوع الى الحكومة؟
طوني خوري – خاص النشرة