ما أروع فلسطين في نضالها المفتوح منذ ثلاثينيات القرن الماضي والمستمر حتى موعدها مع التحرير: يتعب جيل من شبابها نتيجة حجم المؤامرة الدولية وتناقص الدعم والإسناد، ومن طول الطريق الذي ترسمه دماء أهله، فيتقدم الجيل الثاني ثم الثالث فالرابع إلى حومة الجهاد.. وها هو الجيل الخامس ينزل إلى الميدان بزخم نادر المثال، وبسكين متى عزّ الحجر، ليسطّر فصلاً جديداً من فصول الجهاد المقدس من أجل الأرض المباركة.
إنه مبدع هذا الشعب الأسير، وهو خلاّق في ابتكار وسائل نضاله؛
تعجز المؤسسة الرسمية لقيادته التي استولدها “التعب” من طول الطريق والألغام والعقبات الكأداء وخلافات رفاق السلاح، فتخفي عجزها ووجهها في اتفاق أوسلو الذي استولد “سلطة بلا سلطة” وحوّل “الفدائيين” إلى “شرطة لمكافحة الإرهاب”… فإذا بالشارع ينفجر بالتظاهرات، وإذا بأهل الأرض يتصدون بصدورهم العارية لوحوش المستوطنين المسلحين والمعززين بقوات شرطة الاحتلال الإسرائيلي وجيشه الذي لا يعرف في التعامل مع أهل الأرض إلا الرصاص، وسد الطرق بالدبابات، ومطاردة المعترضين برصاص الهليكوبتر أو الطائرات المن دون طيار.
ويهدأ الشارع لفترة، ثم يستأنف تحركه المبارك: يستفزه العدو باعتداء مباشر على المصلين في المسجد الأقصى، ومحاولة اقتطاع مساحات منه للمتعصبين من اليهود. يواجه الشباب بصدورهم العارية، بداية، ثم تستولد روح المقاومة أدواتها، فإذا الحجر يستولد السكين، وإذا السيارة تصلح سلاحاً إذا ما وجّهها سائقها نحو جنود الاحتلال المسلحين حتى أخمص أقدامهم، فإلى جانب الرشاش هناك المسدس، وعند الخصر عنقود من القنابل..
المفاجأة العظيمة التي استولدتها أجيال النضال أن النساء اللواتي كن يكتفين بتشجيع الذاهبين إلى المواجهة بالزغاريد واستقبال العائدين منها شهداء أخذن يتصدين لجند العدو، مباشرة… وخرجت صبايا الورد من البيوت إلى الميدان وقد تسلحن بسكاكين المطبخ يتصيدن بها عسكر الاحتلال الذين بوغتوا بالمفاجأة الصاعقة التي باتت تدر على وسائل الإعلام أخباراً يومية لم تكن متوقعة، كما أن تأثيرها على جنود العدو جاء صاعقاً… فهذا آخر ما كان يمكن أن يتوقعوه. لكن هذا الشعب الخلاّق لا يكف عن ابتكار وسائل المقاومة وأساليبها وأسلحتها.
صار جنود جيش الاحتلال وشرطته يخافون من أية صبية، لا فرق بين أن تكون طالبة في الجامعة أو في الثانوية، ويستوي الأمر في شوارع المدن أو في الطرق الضيقة في قلب الدساكر والقرى.
روح المقاومة تبتدع الأسلحة: في البدء كان الحجر (وهو ما زال يؤدي دوره) وها هي السكاكين ترعب جند العدو.
كيف يمكنك أن تخيف طالب الشهادة فداء لحقه في أرضه.. ومن يعتبر أن استشهاده فوقها ودفنه في ترابها فعل مقاومة، لعله بذلك يضيف إلى خزان المقاومة ما ينفع المتقدمين إلى الشهادة بعده؟!
موجع أن تقف السلطة عاجزة حتى عن استثمار دماء الشهداء.
إن الصبايا ـ قلب الصباح ـ يخرجن من بيوتهن التي منع عنها العدو هواء الحرية بروح معنوية عالية واستعداد لافتداء الأرض المقدسة بأرواحهن.. و “السلطة” تخاف أن تشارك في تقديم العزاء أو في نعيهن كشهيدات للقضية المقدسة.
ولقد انتشرت العدوى كالنار في الهشيم، فإذا القرى في الضفة الغربية تتنافس في المواجهة مع جنود العدو، وفي ابتداع أساليب هذه المواجهة: من الرشق بالحجارة إلى الدهس بالسيارة، إلى الطعن بالسكاكين، إلى خطف جندي متى أمكن ذلك. المهم أن كل جيل شباب يبتدع الأسلوب المناسب في المكان المناسب إذا حانت اللحظة المناسبة..
بالمقابل فقد انتشر الرعب في صفوف الإسرائيليين، جنوداً ومستوطنين، ومتدينين يتخذون من المسجد الأقصى هدفاً بادعاء أن تحته بقايا هيكل سليمان الذي أثبتت الحفريات، فضلاً عن الدراسات التاريخية والأبحاث التي أجراها مهندسون معماريون مزودون بآلات كشف تصوّر الأعماق، أن تلك البقايا هي واحدة من الأساطير التي يتذرع بها الإسرائيليون للحفر تحت المسجد الأقصى مما يهدد بانهياره فيتخلصون ـ وفق مزاعمهم ـ من موقع مقدس يشكل نقطة تجمع أسبوعية ممتازة، يحاول جند الاحتلال “شطبها” بإخراجها كخيار للتلاقي في مكان له ـ حتى الساعة ـ حصانة تجبر “السلطة” كما تجبر ملك الأردن بوصفه “الضامن” أو “الحامي” أو “الوسيط” المقبولة شفاعته، على “التدخل” لحماية هذا الصرح الذي يرى فيه المؤمنون آثار “المعراج” حيث أسرى الله برسوله الأكرم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
[ [ [
ليس دخول صبايا فلسطين إلى حومة النضال أمراً طارئاً… بل إن الفدائيات الفلسطينيات قد سجلن صفحات مشرقة في تاريخ الكفاح المسلح، وإذا كانت ليلى خالد في منزلة الرمز فإنها لم تكن الوحيدة ولا حتى الأولى، وإن ظلت مميزة ليس فقط بشجاعتها بل أساساً بمنطقها القوي الذي أحلها في مرتبة “الداعية” فضلاً عن “الفدائية”.
لكن ما يميز الانتفاضة الجديدة أنها قد انطلقت من الداخل الفلسطيني وليس من خارجه، وأنها عمّت مختلف أنحاء الضفة الغربية قبل أن تتمدد إلى أراضي 1948 فضلاً عن أنها شملت غزة وحاول فتيتها إسقاط الحدود التي نصبها المحتل بينها وبين الضفة الغربية.
بل إن الانتفاضة الجديدة قد أسقطت الحدود بين “الفلسطينات” المحتلة، فتلاقت “الضفة” مع “أراضي 1948” مع “غزة هاشم”، لتقدم صورة جديدة للفداء الفلسطيني عبر الصبايا ـ قلب الصباح، اللواتي نزلن إلى الميدان فشكلن مفاجأة صاعقة للاحتلال.
على أن هذا كله لم يهز شعرة في رأس أي مسؤول عربي، أو في لحية أي ممن يطلقون لحاهم ثم يصبغونها تشبهاً بالسلف الصالح، في حين أنهم لم يقدموا على أي عمل صالح يفيد “القضية المقدسة” التي لم تعد على جدوى أعمالهم ولا هي تشغل بالهم أو تخطر على ألسنتهم، إلا في خطب المناسبات.
الأدهى والأمرّ أن بعض المسؤولين في أكثر من بلد عربي قد باتوا أعظم جرأة في كسر المحظور وارتكاب أشكال مختلفة من الاعتراف الرسمي بالعدو الإسرائيلي، ولو تحايلاً، كأن يغطى إنشاء “قنصلية” بهيئة دولية ما، أو بمؤسسة مزعومة للأبحاث، أو بغطاء مموّه لدولة أخرى ترعى العلاقات المستجدة مع العدو الإسرائيلي.
ولقد تجرأ مسؤول خليجي على مكاشفة بعض الديبلوماسيين العرب فأبلغهم أنه قد آن الأوان للتحرر من عُقد الماضي والاعتراف بأن إسرائيل باتت أمراً واقعاً ولم تعد تنفع المكابرة وإنكار الحقائق الثابتة!
[ [ [
نعود إلى “قلب الصباح” من صبايا فلسطين، المجاهدات الباسلات اللواتي يكتبن صفحة جديدة لها ألقها الخاص في تاريخها المشع شجاعة في مواجهة العدو الإسرائيلي.
إن شباب فلسطين وصباياها يكتبون بدمائهم سجلاً جديداً للفداء، ليؤكدوا أن الجهاد لم ولن يتوقف، وأن الجيل الجديد يبتكر وسائله المختلفة التي أبدعتها روح المقاومة.
لا تعني هذه الكلمات أن نلقي بأعباء تحرير فلسطين على كاهل الجيل الجديد ممن ولدوا في ظل الاحتلال، واندفعوا إلى المقاومة بما ملكت أيمانهم من الأشكال الأولية للسلاح في مواجهة “أقوى جيوش العالم” كما يقول الإسرائيليون عن قواتهم المسلحة. فالحجر ينفع في كسر حاجز الصمت، ويخرق سور العجز الذي قد يصل إلى الاستسلام. وسكين المطبخ قد يعبّر عن إرادة المقاومة، ويقدم البرهان الحسي على رسوخ روح الصمود والانتقال إلى التصدي بروح الشهادة.
إن إرادة المقاومة موجودة، وشبابها جاهزون، ولكن.. أين الحاضنة؟! أين القدرة على تحويل الإرادة إلى فعل، ما دامت السلطة مستمرة في لعبة التفاوض العبثي مع العدو الذي يتقدم يومياً، لاحتلال المزيد من الأراضي التي “مُنحت” للسلطة، فيصادر المشاعات ويطوّق القرى القائمة منذ فجر التاريخ بوحوش المستوطنين، وقد يهدم ما يستنسب من البيوت والمزارع لتوسيع المستوطنات على حساب الأهالي الذين لا يملكون وسائل للمقاومة غير تفجع النساء والمحاولات اليائسة التي يبذلها الكهول والشيوخ لمنع المصادرة أو هدم البيوت الفقيرة.
إن شعب فلسطين لا يعرف اليأس، وها هو يبتدع أساليب نضاله والأسلحة التي يتيسر له الحصول عليها، وصولاً إلى السكاكين والدهس بالسيارات أو اختطاف جندي تصادف وجوده بعيداً عن رفاقه.
[ [ [
نعرف أن هذه الكلمات لن تؤثر فتوقف مسيرة الصلح المهين، أو تمنع إقدام بعض الأنظمة العربية على توطيد علاقاتها التجارية (ومعها العسكرية؟) مع العدو الإسرائيلي بذريعة أنه يملك أنواعاً متطورة من السلاح، على غرار ما فعلت بعض الدول الصديقة مدعية أن قيادة منظمة التحرير طلبت منها ذلك مقابل أن تعترف بها إسرائيل..
ونعرف أن دماء الشهداء الجدد، شباناً وصبايا، لن تحدث انقلاباً في الأوضاع العربية المقلوبة أصلاً والتي يشلها العجز والجبن وافتقاد الإرادة.
نعرف أن هذه الكلمات لن تؤثر على قرارات حاكم عربي، ولن تبدّل في توازن القوة بين شعب فلسطين الأعزل وعدوه المدجج بالسلاح.. وأخطر أنواعه العجز العربي العام وانشغال العرب بحروبهم الأهلية التي لا تترك لديهم فرصة للاهتمام بأي شأن غير سلطة القائم بالأمر..
نعرف… لكن معرفتنا لا تمنع من توجيه تحية تقدير عال لبسالة هذا الجيل الجديد من المقاومة، وبالذات إلى الصبايا فيه اللواتي أثبتن أن روح الفداء والاستبسال من أجل فلسطين تشمل الفلسطينيين جميعاً، رجالاً ونساءً، شيوخاً وفتية، شباناً وصبايا الورد.
… والكفاح دوار.
عن صبايا الورد في فلسطين: المقاومة بسكاكين إرادة التحرير
0