أصل العرب
لا بد من تحديد معنى العروبة قبل الدخول في تصنيف الدول والشعوب بحسبها، فقد جرى الخلط بين الإسلام كدين والعروبة كعرق، ولطالما استعمل تعبيرا الروح والجسد للإشارة اليهما، بينما تعتقد الثقافة الإسلامية السلفيّة بأفضلية جنس العرب على جنس العجم، مخالفة بذلك صحيح الحديث الشريف المتفق عليه لدى جميع المذاهب: “لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى”. وقد تكون الفتوحات الإسلامية شكلت سبقاً غريباً في تاريخ الأمم، حين لم يكتفوا بنشر الدين الإسلامي، بل أسبغوا صفتهم العرقية العربية على البلاد التي احتلوها، وإن كانت قد حصلت هجرات لبعض قبائل الجزيرة الى بلاد الشام هرباً من قساوة العيش، الا أن الغالبية من سكان الشام والعراق اعتنقت الإسلام أو بقي بعضهم على دينه، فكيف أصبحوا عرباً؟ بل كيف تنتقل العروبة إلى بلد ضخم التعداد السكاني في تلك الحقبة كمصر؟ وهلم جرًّا مرورا بليبياوتونس والجزائر وصولا الى المغرب وموريتانيا؟
فهل ينتقل العرق بانتقال الدين؟ هذه الشعوب لديها لغتها الخاصة وثقافتها التاريخية قبل وصول الإسلام، والتغيير الوحيد الذي حصل هو انتشار اللغة العربية في هذه البلدان وطغيانها على اللغات المحلية. فهل تكفي وحدانية اللغة لاستلحاق الأعراق؟
العرب في القرآن
لم ترد لفظة “عرب” في القرآن، بل وردت لفظة “عربي” 11 مرة، و جميعها لوصف لغة القرآن، لا الجماعة، بينما وردت كلمة “أعراب” 10 مرات للدلالة على عرب البادية، وفي 9 منها ذم بصفات الاعراب وتوبيخهم على نفاقهم وقلة ايمانهم. هؤلاء الأعراب تغلبوا بقيمهم المتخلفة والهمجية على قيم الإسلام التي يأتي في طليعتها المساواة بين البشر، فعدا عن الآيات القرآنية التي تؤكد على المساواة، والأحاديث العديدة المعززة لها، فقد مارسها النبي محمد عملياً من خلال تقريبه “الفارسي” سلمان، وقوله فيه ”سلمان منا أهل البيت”. كذلك اتخذ عبداً حبشياً محرراً مؤذناً رسمياً للرسول هو بلال الحبشي، ليضرب فكرة التفوق العربي العنصري، وعقدة التفاخر بالأنساب التي ما زالت تلاحق العرب حتى يومنا هذا وتشدهم الى الوراء.
العرب في التاريخ
لم تظهر كلمة العرب في النقوش التاريخية الا للإشارة الى البدو وسكان الصحراء الرحّل، فأول كلمة ”عرب” ظهرت في اللوح المسماري للملك شلمنصر الثالث (القرن التاسع ق م) الذي يوثق فيه إنتصاره على تحالف ملوك دمشق حيث يذكر فيه أنه غنم “ألف جمل من جنديبو(1) من بلاد العرب” ويقصد فيها قبائل من الجزيرة العربية. بل أن القصد من المشار اليهم بالعرب هم أصلاً وحصراً البدو الرحل، دون سكان المدن “الحضر”، وهذا ما يؤكده العهد القديم في سفر أشعيا(2)بقوله “ولا تعمر إلى جيل فجيل ولا يضرب أعرابي فيها خيمة” .
لقد حض النبي محمد الأعراب على التحضر(اي الاقامة والاستقرار في المدن) بقوله: “من بدا فقد جفا” أي من عاد الى حياة البداوة بعد الإسلام فقد أصابه الجفاء لأنه بحسب إمام السلفية الألباني : “الجفاء من طبيعة الأعراب”. وقد ورد من جملة الكبائر السبع: “التعرب بعد الهجرة”.
أما الإمام علي بن ابي طالب فقد وصف العرب بما لا يجرؤ الكثير على التفوه به في أيامنا، بقوله: “أما بعد فإنّ الله بعث محمدا نذيرا للعالمين وأمينا على التنزيل وشهيدا على هذه الأمة وأنتم معاشر العرب يومئذ على شرّ دين و في شر دار من يخون على حجارة خشن وحيات صمّ وشوك مبثوث في البلاد تشربون الماء الخبيث وتأكلون الطعام الخبيث تسفكون دماءكم وتقتلون أولادكم وتقطعون أرحامكم وتأكلون أموالكم بينكم بالباطل سبلكم خائفة والأصنام فيكم منصوبة… الخ”.
فالمعنى الأصلي للعروبة لم يكن قديماً يشكل مفخرة ما، بل يرمز الى التخلف والهمجية والسلب والاقتتال. ولا يختلف هذا المعنى كثيراً عن الإنطباع الحالي لدى الكثير من شعوب الغرب عند سماعهم كلمة: العرب.
وقد تحققت تحذيرات النبي محمد للعرب “لا ترتدوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض” في سلسلة الحروب الاسلامية الداخلية حول السلطة والحكم منذ وفاة الرسول حتى ايامنا هذه.
العروبة على المحك
1- النموذج اللبناني
حصلت في لبنان منذ إستقلاله محاولات ملتبسة للتوفيق بين إنتمائه العربي وبين وجهه العربي، ولكن هذه التوفيقات المتذبذبة كانت تسقط عند الشدة، ويبرز الخطاب القومي بمواجهة الخطاب الوحدوي، وما تعزيز صورة الإنتماء “الفينيقي” والحديث عن ستة الاف سنة حضارة، في التداول السياسي الا هروب من هذا الإنتماء المفروض بالقوة. وهذا ما ظهر في خطابات بشير الجميل الإرتجالية حين كان يستحضر الصحراء والرمال لدى حديثه عن العرب، وتأكيده على عمر لبنان الضارب في التاريخ، كذلك كان والده الأكثر نضجاً ودبلوماسية الشيخ بيارالجميل يلمح الى هذه الهوية الملتبسة حين كان يهدد العرب بأن انحيازهم الى جانب الفلسطينيين في الحرب اللبنانية سيرغم لبنان على رفع الأمر الى الأمم المتحدة، فالتدويل هنا في مواجهة العروبة. وكان هذا سبب إلصاق صفة “الإنعزالية” بالكتائب وحلفائها.
ولاحقاً استمر هاجس تثبيت مبدأ الإنتماء العربي بنداً أساسياً لدى فريق الحركة الوطنية، وتوج هذا الجهد الطويل في اتفاق الطائف الذي نزع العبارة الملتبسة “لبنان ذو وجه عربي” من مقدّمة الدستور وأبدلها بعبارة “لبنان عربي الهوية والانتماء”. واليوم تبدلت الأدوار بشكل مثير للسخرية، فالفريق العروبي الناصري-السوري يتبرأ من العروبة بعد تجميد عضوية سوريا في الجامعة العربية. والفريق “الإنعزالي” سابقاً يدافع عن العروبة ووحدة الجامعة العربية.
2-النموذج المصري
بعد زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات المفاجئة الى اسرائيل وعقد الصلح معها، قررت الجامعة العربية طرد مصر وتعليق عضويتها، فكان رد السادات في لحظة الحقيقة تلك على سؤال عن تأثير خطوة الطرد على مصر، بأن الجامعة العربية تساوي صفر، وكانت هذه الفترة مناسبة لصعود التيار ”الفرعوني” اذا جاز التعبير ومحاولة الإرتباط مجدداً بالتاريخ الأصلي والغابر للشعب المصري، كما حصل مع التيار “الفينيقي” اللبناني. وعاد هذا التيار الى الواجهة في مصر في مواجهة التيار الديني بعيد سقوط حكم الإخوان بقيادة الرئيس محمد مرسي، وهذه المرة محاولا قطع الجذور ليس مع العروبة فحسب بل مع الإسلام نفسه، من خلال الحملات الاعلامية التي شنت على فاتح مصر، عمرو بن العاص وجيشه ووصفهم بالغزاة المحتلين.على لسان أكثر من إعلامي شهير.
3-النموذج الليبي
عندما ضرب الحصار الجوي على ليبيا بعد حادثة لوكربي(3)، لم تقم الجامعة العربية بأي جهد يذكر للقيام حتى ولو بمحاولة لمعالجة الموضوع، بل الأنكى من ذلك التزمت بقرار الحصار، مما دعا الرئيس الليبي الراحل معمّر القذافي الى مهاجمة العرب والجامعة في أكثر من مناسبة والتبرؤ منها، وإعادة ليبيا الى بحر إنتمائها الأفريقي، من خلال تنصيب نفسه “ملك ملوك أفريقيا” وانفتاحه على الدول الأفريقية وتزويد الدول التي كسر رؤساءها الحصار الجوي بالنفط مجاناً. الأمر الذي لم يجرؤ العرب على فعله.
4-النموذج العراقي
ايضاً عندما ضرب الحصار التجويعي العراق في عهد الرئيس الراحل صدام حسين بتهم ثبت بطلانها لاحقاً، لم يجد العراق معنى للعروبة والتضامن العربي، والوحدة العربية التي يقوم عليها النظام البعثي العراقي. ولئن كان النظام لا يستطيع الخروج من شعاراته الاساسية، الا أن العنان أطلق للتعبيرات الشعبية والفكرية للتمجيد والتفاخر بالحضارات العراقية القديمة والتي تعتبر أقدم حضارة على وجه الأرض.
5-النموذج السوري
يصر النظام البعثي في سوريا على وصفها بـ”قلب العروبة النابض” والواقع أن سوريا بالفعل إحتضنت المحاولات الفكرية الأولى للتأسيس للإنتماء العربي والإنفصال عن التركة العثمانية. فالآباء المؤسسون للفكر القومي العربي كلهم سوريون وابرزهم: عبد الرحمن الكواكبي، ميشيل عفلق (مؤسس حزب البعث)، ساطع الحصري، قسطنطين زريق، محمد عزة دروزة، زكي الأرسوزي. وتحملت الكثير من التضحيات والمعاناة ودفعت ثمناً غالياً لإصرارها على عدم الإعتراف باسرائيل، وتهربها من المفاوضات والتسويات، اقتناعا بفكرة سوريا الكبرى. الى أن سقطت أخيراً تحت ضربات العرب أنفسهم، حيث لم تنتبه الى أن قرارات الجامعة العربية لا تساوي الحبر الذي تكتب به، الا بعد أن تم تعليق عضويتها في الجامعة.
وكما في النموذج العراقي، لا تقدر سوريا الرسمية على بلع شعارات الوحدة العربية ، الا أن المتتبع لنشاط انصار النظام على مواقع التواصل يرصد بوضوح الدعوات الى الكف عن استعمال الشعارات العروبية وانزال اللعنات على العرب، بل بدأت تمس بقدس الأقداس العربية الا وهي القضية الفلسطينية، فلسطين التي لا تخلو احتفالات النظام من علمها الى جانب العلم السوري، دمرت مشاركة الفصائل الفلسطينية الإسلامية في الحرب ضد النظام، التعاطف والإحتضان الشعبي السوري بدرجة كبيرة. ولئن كان النظام يرفض بشكل قاطع الإعتراف بهذا الواقع، الا أن الحاضنة الشعبية أصبحت معبأة وجاهزة لمسايرة أي إنقلاب في المفاهيم الوطنية.
6-النموذج الاسلامي السلفي
التيار السلفي العابر للحدود في كل البلدان العربية والمتمثل بأنصار “داعش” و”القاعدة” و”الإخوان” لا يعترف مطلقاً بوجود الجامعة العربية وبالنسبة اليهم المسلم الشيشاني أوالافغاني أوالروسي أوالبلجيكي، وأي مسلم من أي جنسية، هو أولى بالبلاد من سكانها الأصليين من غير المسلمين السنة.
كما لا يخفى على أي مراقب أن الشعارات التي برزت في السنوات الماضية لتضع مصلحة الدولة أولاً، كشعار الأردن أولاً، وتونس اولاً، ولبنان أولاً، الخ… تخفي وراءها تحللاً من أي التزامات اقليمية قد تتعارض مع المصلحة الوطنية.
7-العروبة مجرد رابطة لغوية
في نهاية هذا العرض لا بد من القول أن مؤسسة الجامعة العربية لا تعدو كونها منظمة إقليمية ليس لها أي قيمة قانونية دولية، فقراراتها لا تلزم إلا المنتمين إليها، ولا يمكن أن تتعارض مع القانون الدولي، والأمر شبيه بإنتماء شخص الى جمعية أو نقابة فأكثر ما تستطيعه الجمعية هو طرده منها، ولا تستطيع سجنه مثلاً أو تجميد أمواله، ويبقى هذا الشخص مسؤولاً أولاً وأخيراً كمواطن أمام دولته.
من بين كثير من تعريفات العروبة التي تسبغ عليها شيئاً من القداسة، اختصر عزمي بشارة (بحكم خلفيّته المسيحية) الرؤية الى العروبة بوضعها في إطار الجامعة اللغوية فقط أي كرابطة الدول الفرنكوفونية، كما هي في الحقيقة والمرتجى، بقوله: “القومية العربية ليست رابطة دم ولا عرق، بل هي جماعة متحلّية بأدوات اللغة ووسائل الاتصال الحديثة تسعى إلى أن تصبح أمة ذات سيادة”.