العروبة القصة المنسيّة

العروبة
سميح الحاج حسن – خاص النشرة
لا تقتصر أزمة الهوية العربية والإنتماء العروبي على لبنانفقط، بل سبق وعصفت بأكثر من دولة عربية ‏عند لحظات حرجة من تاريخها السياسي، وهذا إن دل فعلى سطحية هذا الارتباط المفتعل وهامشيته.  ‏

 

أصل العرب
لا بد من تحديد معنى العروبة قبل الدخول في تصنيف الدول والشعوب بحسبها، فقد جرى الخلط بين ‏الإسلام كدين والعروبة كعرق، ولطالما استعمل تعبيرا الروح والجسد للإشارة اليهما، بينما تعتقد الثقافة ‏الإسلامية السلفيّة بأفضلية جنس العرب على جنس العجم، مخالفة بذلك صحيح الحديث الشريف المتفق ‏عليه لدى جميع المذاهب: “لا فضل  لعربي على أعجمي إلا بالتقوى”. وقد تكون  الفتوحات الإسلامية  ‏شكلت  سبقاً غريباً في تاريخ الأمم، حين لم يكتفوا بنشر الدين الإسلامي، بل أسبغوا  صفتهم العرقية ‏العربية على البلاد التي احتلوها، وإن كانت قد حصلت هجرات لبعض قبائل الجزيرة الى بلاد الشام هرباً ‏من قساوة العيش، الا أن الغالبية من سكان الشام والعراق اعتنقت الإسلام أو بقي بعضهم على دينه، فكيف ‏أصبحوا عرباً؟ بل كيف تنتقل العروبة إلى بلد ضخم التعداد السكاني في تلك الحقبة كمصر؟ وهلم جرًّا ‏مرورا بليبياوتونس والجزائر وصولا الى المغرب وموريتانيا؟
فهل ينتقل العرق بانتقال الدين؟ هذه الشعوب لديها لغتها الخاصة وثقافتها التاريخية قبل وصول الإسلام، ‏والتغيير الوحيد الذي حصل هو انتشار اللغة العربية في هذه البلدان وطغيانها على اللغات المحلية. فهل ‏تكفي وحدانية اللغة لاستلحاق الأعراق؟  ‏

 

العرب في القرآن
لم ترد لفظة “عرب”  في القرآن، بل وردت لفظة “عربي”  11 مرة، و جميعها لوصف لغة القرآن، لا ‏الجماعة، بينما وردت كلمة “أعراب” 10 مرات للدلالة على عرب البادية، وفي 9 منها ذم بصفات ‏الاعراب وتوبيخهم على نفاقهم وقلة ايمانهم. هؤلاء الأعراب تغلبوا بقيمهم المتخلفة والهمجية على قيم ‏الإسلام التي يأتي في طليعتها المساواة بين البشر، فعدا عن الآيات القرآنية التي تؤكد على المساواة، ‏والأحاديث العديدة المعززة لها، فقد مارسها النبي محمد عملياً من خلال تقريبه “الفارسي” سلمان، وقوله فيه ‏‏”سلمان منا أهل البيت”. كذلك اتخذ عبداً حبشياً محرراً مؤذناً رسمياً للرسول هو بلال الحبشي، ليضرب ‏فكرة التفوق العربي العنصري، وعقدة التفاخر بالأنساب التي ما زالت تلاحق العرب حتى يومنا هذا ‏وتشدهم الى الوراء.‏

 

العرب في التاريخ
لم تظهر كلمة العرب في النقوش التاريخية الا للإشارة الى البدو وسكان الصحراء الرحّل، فأول كلمة ‏‏”عرب” ظهرت في اللوح المسماري للملك شلمنصر الثالث (القرن التاسع ق م) الذي يوثق فيه إنتصاره ‏على تحالف ملوك دمشق حيث يذكر فيه أنه غنم “ألف جمل‎ ‎من جنديبو(1) من بلاد العرب” ويقصد فيها ‏قبائل من الجزيرة العربية. بل أن القصد من المشار اليهم بالعرب هم أصلاً وحصراً البدو الرحل، دون ‏سكان المدن “الحضر”، وهذا ما يؤكده العهد القديم في سفر أشعيا(2)بقوله “ولا تعمر إلى جيل فجيل ولا ‏يضرب أعرابي فيها خيمة” .‏
لقد حض النبي محمد الأعراب على التحضر(اي الاقامة والاستقرار في المدن) بقوله: “من بدا فقد جفا” أي ‏من عاد الى حياة البداوة بعد الإسلام فقد أصابه الجفاء لأنه بحسب إمام السلفية الألباني : “الجفاء من طبيعة ‏الأعراب”. وقد ورد من جملة الكبائر السبع: “التعرب بعد الهجرة”. ‏
أما الإمام علي بن ابي طالب فقد وصف العرب بما لا يجرؤ الكثير على التفوه به في أيامنا، بقوله: “أما ‏بعد فإنّ الله بعث محمدا نذيرا للعالمين وأمينا على التنزيل وشهيدا على هذه الأمة وأنتم معاشر العرب يومئذ ‏على شرّ دين و في شر دار من يخون على حجارة خشن وحيات صمّ وشوك مبثوث في البلاد تشربون ‏الماء الخبيث وتأكلون الطعام الخبيث تسفكون دماءكم وتقتلون أولادكم وتقطعون أرحامكم وتأكلون أموالكم ‏بينكم بالباطل سبلكم خائفة والأصنام فيكم منصوبة… الخ”.‏
فالمعنى الأصلي للعروبة لم يكن قديماً يشكل مفخرة ما، بل يرمز الى التخلف والهمجية والسلب والاقتتال. ‏ولا يختلف هذا المعنى كثيراً عن الإنطباع الحالي لدى الكثير من شعوب الغرب عند سماعهم كلمة: ‏العرب.  ‏
وقد تحققت تحذيرات النبي محمد للعرب “لا ترتدوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض” في سلسلة ‏الحروب الاسلامية الداخلية حول السلطة والحكم منذ وفاة الرسول حتى ايامنا هذه.‏
‏ ‏
العروبة على المحك
‏1- النموذج اللبناني ‏
‏ حصلت في لبنان منذ إستقلاله محاولات ملتبسة للتوفيق بين إنتمائه العربي وبين وجهه العربي، ولكن ‏هذه التوفيقات المتذبذبة كانت تسقط عند الشدة، ويبرز الخطاب القومي  بمواجهة الخطاب الوحدوي، وما ‏تعزيز صورة الإنتماء “الفينيقي” والحديث عن ستة الاف سنة حضارة، في التداول السياسي الا هروب من ‏هذا الإنتماء المفروض بالقوة. وهذا ما ظهر في خطابات بشير الجميل الإرتجالية حين كان يستحضر ‏الصحراء والرمال لدى حديثه عن العرب، وتأكيده على عمر لبنان الضارب في التاريخ،  كذلك كان والده ‏الأكثر نضجاً ودبلوماسية الشيخ بيارالجميل يلمح الى هذه الهوية الملتبسة حين كان يهدد العرب بأن ‏انحيازهم الى جانب الفلسطينيين في الحرب اللبنانية سيرغم لبنان على رفع الأمر الى الأمم المتحدة، ‏فالتدويل هنا في مواجهة العروبة. وكان هذا سبب إلصاق صفة “الإنعزالية” بالكتائب وحلفائها.‏
ولاحقاً استمر هاجس تثبيت مبدأ الإنتماء العربي بنداً أساسياً لدى فريق الحركة الوطنية، وتوج هذا الجهد ‏الطويل في اتفاق الطائف الذي نزع العبارة الملتبسة “لبنان ذو وجه عربي” من مقدّمة الدستور وأبدلها ‏بعبارة “لبنان عربي الهوية والانتماء”. واليوم تبدلت الأدوار بشكل مثير للسخرية، فالفريق العروبي ‏الناصري-السوري يتبرأ من العروبة بعد تجميد عضوية سوريا في الجامعة العربية. والفريق “الإنعزالي” سابقاً يدافع عن العروبة ووحدة الجامعة العربية. ‏

 

‏2-النموذج المصري ‏
بعد زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات المفاجئة الى اسرائيل وعقد الصلح معها، قررت ‏الجامعة العربية طرد مصر وتعليق عضويتها، فكان رد السادات في لحظة الحقيقة تلك على سؤال عن ‏تأثير خطوة الطرد على مصر، بأن الجامعة العربية تساوي صفر، وكانت هذه الفترة مناسبة لصعود التيار ‏‏”الفرعوني” اذا جاز التعبير ومحاولة الإرتباط مجدداً بالتاريخ الأصلي والغابر للشعب المصري،  كما ‏حصل مع التيار “الفينيقي” اللبناني. وعاد هذا التيار الى الواجهة في مصر في مواجهة التيار الديني بعيد ‏سقوط حكم الإخوان بقيادة الرئيس محمد مرسي، وهذه المرة محاولا قطع الجذور ليس مع العروبة فحسب بل ‏مع الإسلام نفسه، من خلال الحملات الاعلامية التي شنت على فاتح مصر، عمرو بن العاص وجيشه ‏ووصفهم بالغزاة المحتلين.على لسان أكثر من إعلامي شهير. ‏

 

‏3-النموذج الليبي
عندما ضرب الحصار الجوي على ليبيا بعد حادثة لوكربي(3)، لم تقم الجامعة العربية بأي جهد يذكر للقيام ‏حتى ولو بمحاولة لمعالجة الموضوع، بل الأنكى من ذلك التزمت بقرار الحصار، مما دعا الرئيس الليبي ‏الراحل معمّر القذافي الى مهاجمة العرب والجامعة في أكثر من مناسبة والتبرؤ منها، وإعادة ليبيا الى ‏بحر إنتمائها الأفريقي، من خلال تنصيب نفسه “ملك ملوك أفريقيا” وانفتاحه على الدول الأفريقية وتزويد ‏الدول التي كسر رؤساءها الحصار الجوي بالنفط مجاناً. الأمر الذي لم يجرؤ العرب على فعله.

‏4-النموذج العراقي
ايضاً عندما ضرب الحصار التجويعي العراق في عهد الرئيس الراحل صدام حسين بتهم ثبت بطلانها ‏لاحقاً، لم يجد العراق معنى للعروبة والتضامن العربي، والوحدة العربية التي يقوم عليها النظام البعثي ‏العراقي. ولئن كان النظام لا يستطيع الخروج من شعاراته الاساسية، الا أن العنان أطلق للتعبيرات الشعبية ‏والفكرية للتمجيد والتفاخر بالحضارات العراقية القديمة والتي تعتبر أقدم حضارة على وجه الأرض.

‏5-النموذج السوري ‏
يصر النظام البعثي في سوريا على وصفها بـ”قلب العروبة النابض” والواقع أن سوريا بالفعل إحتضنت ‏المحاولات الفكرية الأولى للتأسيس للإنتماء العربي والإنفصال عن التركة العثمانية. فالآباء المؤسسون ‏للفكر القومي العربي كلهم سوريون وابرزهم: عبد الرحمن الكواكبي، ميشيل عفلق (مؤسس حزب ‏البعث)، ساطع الحصري، قسطنطين زريق، محمد عزة دروزة، زكي الأرسوزي. وتحملت الكثير من ‏التضحيات والمعاناة ودفعت ثمناً غالياً لإصرارها على عدم الإعتراف باسرائيل، وتهربها من المفاوضات ‏والتسويات، اقتناعا بفكرة سوريا الكبرى. الى أن سقطت أخيراً تحت ضربات العرب أنفسهم، حيث لم ‏تنتبه الى أن قرارات الجامعة العربية لا تساوي الحبر الذي تكتب به، الا بعد أن تم تعليق عضويتها في ‏الجامعة. ‏
وكما في النموذج العراقي، لا تقدر سوريا الرسمية على بلع شعارات الوحدة العربية ، الا أن المتتبع لنشاط ‏انصار النظام على مواقع التواصل يرصد بوضوح الدعوات الى الكف عن استعمال الشعارات العروبية ‏وانزال اللعنات على العرب، بل بدأت تمس بقدس الأقداس العربية الا وهي القضية الفلسطينية، فلسطين ‏التي لا تخلو احتفالات النظام من علمها الى جانب العلم السوري، دمرت مشاركة  الفصائل الفلسطينية ‏الإسلامية في الحرب ضد النظام، التعاطف والإحتضان الشعبي السوري بدرجة كبيرة. ولئن كان النظام ‏يرفض بشكل قاطع الإعتراف بهذا الواقع، الا أن الحاضنة الشعبية أصبحت معبأة وجاهزة لمسايرة أي ‏إنقلاب في المفاهيم الوطنية.‏

 

‏6-النموذج الاسلامي السلفي
التيار السلفي العابر للحدود في كل البلدان العربية والمتمثل بأنصار “داعش” و”القاعدة” و”الإخوان” لا ‏يعترف مطلقاً بوجود الجامعة العربية وبالنسبة اليهم المسلم الشيشاني أوالافغاني أوالروسي أوالبلجيكي، ‏وأي مسلم من أي جنسية، هو أولى بالبلاد من سكانها الأصليين من غير المسلمين السنة. ‏
كما لا يخفى على أي مراقب أن الشعارات التي برزت في السنوات الماضية لتضع مصلحة الدولة أولاً، ‏كشعار الأردن أولاً، وتونس اولاً، ولبنان أولاً، الخ… تخفي وراءها تحللاً من أي التزامات اقليمية قد ‏تتعارض مع المصلحة الوطنية. ‏

 

‏7-العروبة مجرد رابطة لغوية
في نهاية هذا العرض لا بد من القول أن مؤسسة الجامعة العربية لا تعدو كونها منظمة إقليمية ليس لها أي ‏قيمة قانونية دولية، فقراراتها لا تلزم إلا المنتمين إليها، ولا يمكن أن تتعارض مع القانون الدولي، والأمر ‏شبيه بإنتماء شخص الى جمعية أو نقابة فأكثر ما تستطيعه الجمعية هو طرده منها، ولا تستطيع سجنه ‏مثلاً أو تجميد أمواله، ويبقى هذا الشخص مسؤولاً أولاً وأخيراً كمواطن أمام دولته. ‏
من بين كثير من تعريفات العروبة التي تسبغ عليها شيئاً من القداسة، اختصر عزمي بشارة (بحكم خلفيّته ‏المسيحية) الرؤية الى العروبة بوضعها في إطار الجامعة اللغوية فقط أي كرابطة  الدول الفرنكوفونية، ‏كما هي في الحقيقة والمرتجى، بقوله: “القومية العربية ليست رابطة دم ولا عرق، بل هي جماعة متحلّية ‏بأدوات اللغة ووسائل الاتصال الحديثة تسعى إلى أن تصبح أمة ذات سيادة”.