المياه في الصراعات الإقليمية العربية: الحرب المخفية (1)‏

المياه في الصراعات الإقليمية

عند دراسة أسباب وأهداف ما يجري في العالم العربي من صراعات وحروب وتضارب في ‏المواقف المعلنة وغير المعلنة؛ يظهر موضوع النفط والغاز كأهمّ الركائز الأساسية ‏للمصالح الإقليمية في التحليلات الإستراتيجية؛ وتبقى مسألة المياه شبه مخفية كعامل ‏أساسي في الحروب الدائرة، ولئن كانت هي الحرب المخفية.‏
أسباب عدّة تدفع لهذا الشحّ القصدي وغير القصدي في بعض الإعلام العربي لا سيّما ‏المرئي منه بالتداول في الاستراتيجيات السياسية والإقتصادية والأمنية للمياه، إذ لا شكّ أنّ ‏دولاً عدّة على يقين بأنّ هذه المادة هي قنبلة نووية من العيار المدمّر لأيّ تسويات أو ‏مفاوضات محتملة حول حلول للأزمات الواقعة.‏
وما بعض الإعلام لدينا في العالم العربي إلاّ راكباً لأمواج تُفبرَك له فيترك البحار والأنهار ‏التي تنبع منها كل الحقائق؛ فمعضلة المياه في الأزمات الإقليمية حولنا يجب أن تُطرَح ‏على بساط المفاوضات الدولية اليوم قبل الغد تحسّباً لأيّ “ربيع” آخر يُخطّط له آتٍ هذه ‏المرّة لنصرة ديمقراطية “التصحّر”.‏
ولأنّ “حقوق المياه” في العالم العربي متشعّبة وواسعة ولا يمكن اختصارها في مقالة واحدة؛ ‏سنطرح في هذه السطور المتواضعة الجزء الأول منها المتعلقة بأزمة مياه “بلاد ما بين ‏النهرين”؛ “العراق” الجريح الذي بدأت منه أول براكين وحمم المخططات الخارجية ‏الإستعمارية للعصر الحديث.‏
بادىء ذي بدء لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الأحواض النهرية الأكثر خطورة على صعيد ‏اندلاع الإشتباكات السياسية والحروب الفعلية حولها هي: حوض نهري دجلة والفرات؛ ‏حوض نهر الأردن؛ حوض نهر النيل.‏
فإذا كان القانون الدولي هو الواجب التطبيق عند نشوء أي نزاع بين دولتين أو أكثر حول ‏المياه المشتركة أو حول حماية الموارد المائية أو توزيع الحصص بعد القسمة كما مفهوم ‏الأنهار الدولية والأنهار الوطنية ومياه المجاري الدولية والسدود وغيرها… فإنّ تعنّت ‏بعض الحكومات في آرائها وإصرارها على تطبيق مراسيمها وقراراتها وقوانينها المحلية ‏المتعارضة مع المفاهيم الدولية أوقع النزاع؛ وخير مثال على ذلك ما لحق بالدولتين ‏السورية والعراقية من خسائر في حقوقهما المائية نتيجة السياسة المائية التركية والمشاريع ‏التي نفذتها والتي تضعها حيّز الدراسات والتخطيط للتنفيذ المستقبلي بالأجزاء النابعة من ‏نهري دجلة والفرات.‏
تطبيقاً لمبدأ المساواة في الحقوق، إنّ كلاً من العراق، سوريا وتركيا تمتلك حقّ الإنتفاع ‏المطلق والتصرف بالمياه الجارية ضمن سيادة أراضيها كما حقّ الملكية المطلق على ‏الجزء من النهر الواقع ضمن أراضيها؛ فنهر الفرات ينبع لمسافة 6800 كم في العراق ‏ولمسافة 120 كم في سوريا و4200 كم في تركيا، فحق التصرف المطلق لكل من الدول ‏الثلاث ينحصر بالمساحة المحددة أعلاه على ألاّ تنتج المشاريع كالسدود اجحافا بالدول ‏المتشاطئة. لذلك؛ إنّ الإشكالية القانونية كما الإقتصادية وتضارب المصالح والخطر على ‏الأمن المائي وأمن المناطق المجاورة من أي فيضان محتمل أو نقص في المخزون  يكبر ‏عند طرح مشاريع “السدود”.‏

الواقع أنّه لا يوجد إتفاقية يمكن بموجبها الإلزام بالتنسيق والتعاون بين الدول الثلاث على ‏كيفية الإدارة المشتركة للسدود وتخزين المياه رغم كل الإتفاقيات والمعاهدات والبروتوكولات ‏التي وُقّعت فيما بين تركيا-سوريا-العراق من العام 1920 أيام الإنتداب البريطاني على ‏العراق وحتى يومنا هذا. إذ إنّ اجتماعات اللجنة المشتركة التي كانت مكلّفة إتمام الدراسات ‏والتوصّل لإتفاقيات بين الحكومات المعنية توقّف عملها منذ العام 1992 بسبب حضور ‏الجانب التركي الإجتماعات التي وُجّهت دعواتها إليه؛ فتعقّدت المفاوضات إلى أن أعلنت ‏تركيا موقفاً له تداعياته وإشكالياته القانونية والإقتصادية باعتبار أن نهري دجلة والفرات ‏ليسا نهرين دوليين بل مياه عابرة للحدود، رافضة بذلك قسمة المياه وتحديد حصّة كلّ من ‏سوريا والعراق على اعتبار أنه والحالة هذه ليس هنالك من مياه مشتركة وأعلنت وجوب ‏اعتبار حوض دجلة والفرات حوضاً واحداً وليس حوضين منفصلين مطبّقة بذلك مبدأ ‏‏”هارمون” أي حق السيادة المطلق على المياه النابعة من أراضيها من انتفاع واستغلال ‏وإنشاء السدود وتنفيذ المشاريع دون وجوب العودة الى الدول المتشاطئة معها أي سوريا ‏والعراق. وهذا ما رفضته صراحة سوريا وكذلك فعل العراق؛ ورفضت سوريا بشكل حازم ‏خطة “المراحل الثلاث”التي وضعتها تركيا لإطالة أمد الدراسات والمفاوضات لأجل غير ‏مسمّى وشدّدت سوريا على وجوب التوصل إلى حلّ جذري في موضوع قسمة المياه ‏وغيرها. وكذلك موقف العراق… ووقع الصراع. ‏
هذا الصراع الذي يعزز موقف اسرائيل حيال هاجسها الوجودي بحيث أن المياه عامل من ‏أخطر العوامل لديها على أمنها الوجودي… هي التي تسعى مع تركيا إلى تحقيق مشروع ‏‏”أنابيب السلام” هذا المشروع الذي ظهر أنه سقط في العلن وهو حي يُرزق في ‏المخططات؛ مشروع أنابيب واقع على نهري “سيحان” و”جيحان” والذي تمرر تركيا عبره ‏المياه إلى دول الجوار؛ فالخط الغربي يمر بسوريا، الأردن، اسرائيل والسعودية.‏
أما الخط الشرقي فيمر عبر سوريا، الأردن، السعودية، الكويت والإمارات.‏
رفضت سوريا هذا المشروع؛ رحبت به اسرائيل وبعض دول الخليج ورفضته أخرى لرفضها ‏تسليم تركيا أمنها المائي.‏
ويأتي مشروع “الكاب” التركي أو مشروع جنوب شرق الأناضول الذي يقوم على نهري ‏دجلة والفرات وهو أكبر مشروع تركي منذ قيام الجمهورية ليؤجج النزاع.‏
بغداد ودمشق ترفضان هذا المشروع لأنه يؤثر سلباً على مستوى تدفق المياه في أراضيهما ‏ما يؤدي إلى تدنٍ في الإنتاج الكهربائي والزراعي والإقتصادي بشكل عام.‏
باتت أزمة المياه ورقة سياسية؛ اقتصادية وقانونية لإشعال الحرب من جهة أو لإيجاد ‏مساومة من جهة أخرى واسرائيل في الحالتين لاعبة أساسية فيها. ففي غياب سياسة أمن ‏مائي عربي مشتركة واستراتيجيات مشتركة لتخزين المياه واتفاقيات حديثة معقودة بإشراف ‏الأمم المتحدة؛ المعركة القادمة أشرس.‏

المحامية سندريللا مرهج‏ –