عند دراسة أسباب وأهداف ما يجري في العالم العربي من صراعات وحروب وتضارب في المواقف المعلنة وغير المعلنة؛ يظهر موضوع النفط والغاز كأهمّ الركائز الأساسية للمصالح الإقليمية في التحليلات الإستراتيجية؛ وتبقى مسألة المياه شبه مخفية كعامل أساسي في الحروب الدائرة، ولئن كانت هي الحرب المخفية.
أسباب عدّة تدفع لهذا الشحّ القصدي وغير القصدي في بعض الإعلام العربي لا سيّما المرئي منه بالتداول في الاستراتيجيات السياسية والإقتصادية والأمنية للمياه، إذ لا شكّ أنّ دولاً عدّة على يقين بأنّ هذه المادة هي قنبلة نووية من العيار المدمّر لأيّ تسويات أو مفاوضات محتملة حول حلول للأزمات الواقعة.
وما بعض الإعلام لدينا في العالم العربي إلاّ راكباً لأمواج تُفبرَك له فيترك البحار والأنهار التي تنبع منها كل الحقائق؛ فمعضلة المياه في الأزمات الإقليمية حولنا يجب أن تُطرَح على بساط المفاوضات الدولية اليوم قبل الغد تحسّباً لأيّ “ربيع” آخر يُخطّط له آتٍ هذه المرّة لنصرة ديمقراطية “التصحّر”.
ولأنّ “حقوق المياه” في العالم العربي متشعّبة وواسعة ولا يمكن اختصارها في مقالة واحدة؛ سنطرح في هذه السطور المتواضعة الجزء الأول منها المتعلقة بأزمة مياه “بلاد ما بين النهرين”؛ “العراق” الجريح الذي بدأت منه أول براكين وحمم المخططات الخارجية الإستعمارية للعصر الحديث.
بادىء ذي بدء لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الأحواض النهرية الأكثر خطورة على صعيد اندلاع الإشتباكات السياسية والحروب الفعلية حولها هي: حوض نهري دجلة والفرات؛ حوض نهر الأردن؛ حوض نهر النيل.
فإذا كان القانون الدولي هو الواجب التطبيق عند نشوء أي نزاع بين دولتين أو أكثر حول المياه المشتركة أو حول حماية الموارد المائية أو توزيع الحصص بعد القسمة كما مفهوم الأنهار الدولية والأنهار الوطنية ومياه المجاري الدولية والسدود وغيرها… فإنّ تعنّت بعض الحكومات في آرائها وإصرارها على تطبيق مراسيمها وقراراتها وقوانينها المحلية المتعارضة مع المفاهيم الدولية أوقع النزاع؛ وخير مثال على ذلك ما لحق بالدولتين السورية والعراقية من خسائر في حقوقهما المائية نتيجة السياسة المائية التركية والمشاريع التي نفذتها والتي تضعها حيّز الدراسات والتخطيط للتنفيذ المستقبلي بالأجزاء النابعة من نهري دجلة والفرات.
تطبيقاً لمبدأ المساواة في الحقوق، إنّ كلاً من العراق، سوريا وتركيا تمتلك حقّ الإنتفاع المطلق والتصرف بالمياه الجارية ضمن سيادة أراضيها كما حقّ الملكية المطلق على الجزء من النهر الواقع ضمن أراضيها؛ فنهر الفرات ينبع لمسافة 6800 كم في العراق ولمسافة 120 كم في سوريا و4200 كم في تركيا، فحق التصرف المطلق لكل من الدول الثلاث ينحصر بالمساحة المحددة أعلاه على ألاّ تنتج المشاريع كالسدود اجحافا بالدول المتشاطئة. لذلك؛ إنّ الإشكالية القانونية كما الإقتصادية وتضارب المصالح والخطر على الأمن المائي وأمن المناطق المجاورة من أي فيضان محتمل أو نقص في المخزون يكبر عند طرح مشاريع “السدود”.
الواقع أنّه لا يوجد إتفاقية يمكن بموجبها الإلزام بالتنسيق والتعاون بين الدول الثلاث على كيفية الإدارة المشتركة للسدود وتخزين المياه رغم كل الإتفاقيات والمعاهدات والبروتوكولات التي وُقّعت فيما بين تركيا-سوريا-العراق من العام 1920 أيام الإنتداب البريطاني على العراق وحتى يومنا هذا. إذ إنّ اجتماعات اللجنة المشتركة التي كانت مكلّفة إتمام الدراسات والتوصّل لإتفاقيات بين الحكومات المعنية توقّف عملها منذ العام 1992 بسبب حضور الجانب التركي الإجتماعات التي وُجّهت دعواتها إليه؛ فتعقّدت المفاوضات إلى أن أعلنت تركيا موقفاً له تداعياته وإشكالياته القانونية والإقتصادية باعتبار أن نهري دجلة والفرات ليسا نهرين دوليين بل مياه عابرة للحدود، رافضة بذلك قسمة المياه وتحديد حصّة كلّ من سوريا والعراق على اعتبار أنه والحالة هذه ليس هنالك من مياه مشتركة وأعلنت وجوب اعتبار حوض دجلة والفرات حوضاً واحداً وليس حوضين منفصلين مطبّقة بذلك مبدأ ”هارمون” أي حق السيادة المطلق على المياه النابعة من أراضيها من انتفاع واستغلال وإنشاء السدود وتنفيذ المشاريع دون وجوب العودة الى الدول المتشاطئة معها أي سوريا والعراق. وهذا ما رفضته صراحة سوريا وكذلك فعل العراق؛ ورفضت سوريا بشكل حازم خطة “المراحل الثلاث”التي وضعتها تركيا لإطالة أمد الدراسات والمفاوضات لأجل غير مسمّى وشدّدت سوريا على وجوب التوصل إلى حلّ جذري في موضوع قسمة المياه وغيرها. وكذلك موقف العراق… ووقع الصراع.
هذا الصراع الذي يعزز موقف اسرائيل حيال هاجسها الوجودي بحيث أن المياه عامل من أخطر العوامل لديها على أمنها الوجودي… هي التي تسعى مع تركيا إلى تحقيق مشروع ”أنابيب السلام” هذا المشروع الذي ظهر أنه سقط في العلن وهو حي يُرزق في المخططات؛ مشروع أنابيب واقع على نهري “سيحان” و”جيحان” والذي تمرر تركيا عبره المياه إلى دول الجوار؛ فالخط الغربي يمر بسوريا، الأردن، اسرائيل والسعودية.
أما الخط الشرقي فيمر عبر سوريا، الأردن، السعودية، الكويت والإمارات.
رفضت سوريا هذا المشروع؛ رحبت به اسرائيل وبعض دول الخليج ورفضته أخرى لرفضها تسليم تركيا أمنها المائي.
ويأتي مشروع “الكاب” التركي أو مشروع جنوب شرق الأناضول الذي يقوم على نهري دجلة والفرات وهو أكبر مشروع تركي منذ قيام الجمهورية ليؤجج النزاع.
بغداد ودمشق ترفضان هذا المشروع لأنه يؤثر سلباً على مستوى تدفق المياه في أراضيهما ما يؤدي إلى تدنٍ في الإنتاج الكهربائي والزراعي والإقتصادي بشكل عام.
باتت أزمة المياه ورقة سياسية؛ اقتصادية وقانونية لإشعال الحرب من جهة أو لإيجاد مساومة من جهة أخرى واسرائيل في الحالتين لاعبة أساسية فيها. ففي غياب سياسة أمن مائي عربي مشتركة واستراتيجيات مشتركة لتخزين المياه واتفاقيات حديثة معقودة بإشراف الأمم المتحدة؛ المعركة القادمة أشرس.
المحامية سندريللا مرهج –