وددتُ الدخول بكلام حول هذا “الربيع”، ينأى عن الانشائية اللغوية، فلا يطغى فيه الشكل على المضمون، ليتّسم في الآن عينه بالوضوح، فيتبرّد ضميري، ويعتدل القلم في يديّ، وألقى منه الوضوح والغاية التي أسعى إليها،
“الربيع العربي”…
هل هو حقاً “ربيع”؟
وهل نلمح خضارة ألوانه، وعبق رياحينه، واعتدال مناخاته، في عالمنا العربي اليوم، الذي لم يشهد منذ قرون، باستثناء الحقبة الناصريّة، التي تضمّنت حقيقة “الحياة الوطنية والقومية”،
وهل نحن ذاهبون حقّاً لنشهدها؟..
من يقرأ التاريخ، يَرَ بأن المنطقة العربية عاشت وعوداً متتالية، كان يرسمها الاجنبي، فنصدقها، ولا نكاد ندرك بعض سماتها الباهية، حتى يطلّ أجنبي آخر، حاملاً إليها ألواناً مزوّرة، تزرع فيها الأمل، فالإرتياب، لتكرَّ بعد ذلك الوعود الكاذبة، الواحدة منها، أكثر مرارة من سابقاتها.. وهكذا دواليك
لقد حفل “الربيع العربي” الحالي باستشهاد مئات الألوف من أبناء العالم العربي، أكثريتهم الساحقة من الأطفال والنساء، والشيوخ، والابرياء، كما أنجز عملية واسعة من التفتيت الطائفي، والمذهبي، والعنصري في العديد من الدول العربية، ودمّر المنازل والقطاعات العامة والخاصة، الاقتصادية منها والاجتماعية ليزيد عدد النازحين، والفقراء، والجياع، بنسبٍ مخيفة..
وكل ذلك كان يتمّ من خلال رزمة من الوعود الكاذبة، التي قدّمتها الحكومات الاجنبية، يتبناها العالم العربي، دون أن يعمل على تطبيقها.
فعلى الصعيدالسياسي، والحريات والعدالة والمساواة، تميز عالمنا بإفراغ هذه العبارات من مضامينها الحقيقية فكانت هنالك سلطات فوقيّة وأجهزة حزبية، تؤطر زبانيتها، وحكومات لا لون لها، تعتمد خطباً توافقية في ظاهرها فقط، وسلطات فوق الدولة تهيمن على الحياة العامة، وحتى على حرية التعبير، عبر أجهزة أمنية، واستخباراتية، حاذقة، مدعومة بالمال،والسَّفارات الأجنبيّة، وكان كل ذلك يتم باسم الديموقراطية التي جعلونا نحلم بها، ولكنهم سعوا، ويسعون الى تطبيقها على النّحو الذي يتطابق ويتوافق مع مصالح أصحاب السلطات والمتحكمين بها.
أما على الصعيد الاقتصادي، فلقد هيمن النفط والاقتصاد الرَّيعي، والمضاربات العقارية، على حساب الصناعة والزراعة، وكان من المستحيل بان تدخل معظم الدول العربية في “نادي” النّمو الاقتصادي الحقيقي، وسط سيطرة أقرباء الحكم على مفاصل الاقتصاد، وصولاً الى نشوء سلطة إقتصادية، فوق سلطة الدولة يحكمها الفساد، والعهر، والأنانية، وبقرارات تتخذ بالخفاء، بدعم من الاجهزة الأمنية، بلباس شرعي أحياناً، وأحياناً أخرى بجهد واضح، وبلباس الحاكم وحاشيته.
وأما على الصعيد الاجتماعي، فلقد كان من نصيب الدول العربية، الانفجار الديموغرافي، لتنشأ عبره، أجيال شبابية لا تتوفر لها فرص العمل المطلوبة، وإذا ما توفرت، تكون هشة وغير ثابتة، ما يدفع هذه الأجيال الى الهجرة للخارج، او لضواحي المدن الكبرى.المكتظة بالسكان، وبالتالي إجلاء معظم المناطق الريفيّة من أهمّ عناصر التنمية، بالرغم من كذبة عبارة “التنمية المناطقية” التي تتكرر منذ عشرات السنين، والتي أدّت الى فجوة كبيرة كانت تزداد عمقاً بين الحاكم والمحكوم، الى درجة انها تسببت منذ العقد السابع من القرن الماضي، إثر وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، مروراً بانهيار النظام السوفياتي، بتراجع الخطاب القومي، أمام خطاب المنظمات الدينية العدائي للغرب المؤيد لإسرئيل، الذي ما لبث، انتحول الى الاعتدال، إثر انضمام تركيا الى الحلف الاطلسي، والالتزام بقراراته، وذلك ما ساعد على حصول تواصل بين الولايات المتحدةوالمنظمات الدينية الاسلامية، التي وجدت فيه رغبةً لبلوغ السلطة، وهي ر غبة وافقت عليها الولايات المتحدة الأميركية، والغرب بصورة عامة، شرط عدم الاضرار بالمصالح الاسرائيلية، وحتى لو تناقضت سياساتها المرتكزة على الشريعة الاسلامية مع أبسط المبادىء الديموقراطية، وقيم، ومبادىء الدولة الحديثة.
من هنا بدأ الحديث عمّا بات يعرف اليوم “بالربيع العربي”، الذي كانت بعض الدول العربية المتحالفة مع الغرب السّبّاقة الى الترحيب به، ودعمه بالرغم من بعدها عن الديموقراطية، والمشاركة الشعبية في الحكم، واحترام حقوق الانسان، بمضمونها الحقيقي الحديث.
وترافق كل ذلك، توافق مع توظيف هذه الدول لثرواتها، وقدراتها، في تحريك الغرائز والهواجس الطائفية، والمذهبية، والعنصرية، وتجنيد، وتمويل الثائرين في الدول العربية الاخرى لدوافع ساعدت على رسم انتفاضات “الربيع العربي”، الذي لم يتمكن حتى الآن من تحقيق المؤسسات الديموقراطية في الحكم، وبالمقابل فان القوى العربية المعادية لاسرائيل، والمقاومة لمطامعها، أكانت مرجعيات دينية أو قومية، هي الضحية المستباحةلما سمي “مسار التغيير”…
إزاء كل ما عانته الدول العربية على امتداد العقود الماضية برعاية الدول الاجنبية لماذا تثور اليوم، وبعضها برعاية هذه الدول ودعمها؟..
وهل “ربيع” هو هذا الذي شهدناه منذ بداية هذا القرن في العراق،الذي أُصيبت دولته بالتفتُّت الطائفي والمذهبي والعرقي، ودمّرت عاصمته ولا تزال مئات آلاف الارامل والأطفال، تبحث عمّن يؤمن لها العيش، بالرغم مما هو تحت ارضهم، وما فوقها، من خيرات وثروات؟…
وهل “ربيع” هو ما أمل به الثوار الليبيون من تنشق نسمات الحرية، والعدالة، والديموقراطية التي فقدوها خلال حكم القذافي على امتداد أربعة قرون، والحرب التي تلته، وإثر انهياره وبعده، وبالرغم من الدعم الاطلسي السياسي والعسكري، الذي انضمّ اليه مرغماً الدعم الاميركي؟..
وهل “ربيع” ما حصل في اليمن وفي البحرين، حيث تداخلت في ثورتهما القوى الاجنبية، وبعض أنظمة الدول العربية، بحجة حمايتها، من الاجتياح الايراني، فباتتا في حالٍ من الانقسام، تعيشان مخاضاً عسيراً بين إنجازات “التورة البناءة” من جهة، وغلبة “التيارات المتشددة” من جهة ثانية؟..
واي “ربيع” هو هذا الذي واجهته، وتواجهه، تونس، ومن بعدها مصر، الدولتان الّلتان، عرفتا بعلاقاتهما الوثيقة مع الولايات المتحدة وفرنسا، واستطراداً ببعض العلاقة مع اسرائيل، فما كاد الثائرون ينقلبون على رئيسيهما بحجة الاستبداد والفساد، والعلاقة مع اسرائيل، حتى دخلوا في مخاضٍ مغاير لرايات الثورة ولانقسامات لم يتمكنوا من ضبطها حتى الآن؟..
واي ربيع هذا الذي يتهدد سوريا من خلال ثورة توزعت على قيادات متباعدة، ومتنافرة، ما لبثت الدول الخارجية الداعمة لها بالمال، والسلاح،والمسلحين ان وحدت العديد منها، فاندفعت بشراسة غير آبهة بعشرات الآلاف من الضحايا والخراب، والانهيار الاقتصادي، والتفتت الشعبي، ونزوح الملايين من المواطنين. وكل ذلك تحت شعارات الحرية والديموقراطية والوحدة الوطنية، التي ما لبثت ان ترافقت مع الارتدادات الطائفية، والمذهبية والعنصرية، وهي شعارات لم تعرفها سوريا من قبل.
أما في لبنان، فلقد شهد مسلسلاً طويلاً من المآسي والكوارث، كان له آثار مدمرة على كل الصُّعد الوطنية والاقتصادية والاجتماعية، مسلسلاً حلّ منذ بداية الربع الأخير من القرن الماضي، واستمرّ عبر حلقات متتالية بوجوه بعضها سياسي، وبعضها عسكري، فما كاد اللبنانيون يعيدون ترميم وطنهم، حتى بدأت الأحداث السورية، لتترك تداعياتها بسرعة على لبنان، الذي عادت اليه بكل المٍ، لغة التقاسم والإنفصام، بعضها تحت رعاية فريقي 8 و14 آذار، والبعض الآخر باسم الطائفية والمذهبية المقيتيّين..
وهكذا فالذي ظنّ، من اللبنانيين منذ اتّفاق الطائف (1989) بأن الحرب قد انتهت الى غير رجعة ها هو يشهد اليوم تلاطم الغيوم من جديد، وفي سباق محموم، وإذا بالزمان الذي لمحنا السعادة في أفقه يعود لينسلّ هارباً، ململماً أوراقه، غافلاً عمّا تركه لنا من وعود…
هذا على الصعيد اللبناني،
أما على الصعيد العربي، بصورة عامة، فاننا نشهد بكل ألم، بأن الزمان الذي وعدنا به الغرب، من خلال ما أعربت عنه وزيرة الخارجية الاميركية، السيدة “كونداليزا رايس”، بان ما يجري، قد يستمر من خلال ما سمته “الفوضى الخلاّقة” وإذا الواقع، وصورة المستقبل، لا يتفقان مع هذا الوعد على الإطلاق…
فالفوضى هي “تخريبية”، لا “خلاّقة” والديموقراطية التي نعيشها، ليست من صنع بلادنا، وانما هي مزورة، ومستوردة…
والواقع ان المشهد العام في الشرق الاوسط بكامله بات في عين تلك العاصفة، وفوق فوهة بركان، فالاحداث والمستجدات والمعطيات التي توالت في الفترة الأخيرة بمستقبلٍ لا يمكن تحديد استشرافه، تترك لنا تساؤلات، حول أزمات تخفيها الأوضاع الميدانية، التي تتبدل بسرعة ويعصي علينا إدراك ومعرفة تطورها على وجه التحديد، لأنها من صنع الخارج، وتحديداً الدول التي تساهم في صنع “القرار العالمي”…
وبعد،
اي “ربيع” هو هذا؟
وهل يكون “ربيعاً” ذلك الذي شاهدنا فيه تلك الثورات العارمة التي بدأت، ولم تنتهِ، وأوقعت مئات الآلاف من الضحايا، وملايين النازحين، معظمهم من الأطفال، والنساء، والشيوخ، والابرياء، ولم تعد المشافي تتسع للجرحى والمصابين، ودمرت المؤسسات، والمنازل، والمواقع الدينية، فضلاً عن تهجير الملايين بكل الاتجاهات الاقليمية منها، والدولية؟
وأين القادة، المفكّرون، والشرفاء العرب من جميع دول هذه المنظمة، فلا يبذلون ما يكتنزون من عقل، وضمير، ورجولة واحترام، ويعملون على الخروج من هذا الجحيم الداكن، ومعالجة هذه الثلوم العميقة، وإعادة النقاء الى وجه أمّتهم، الذي شوّهه هذا “الربيع”؟
وماذا يعدنا الغد؟
بقطع المنظر عمّا واجهه الشرق العربي حتى الآن من مخلفات تركها الطغيان الخارجي، واطماعه في استثمار ثرواته، فهنالك عناصر من الاستدلال والتحليل، منها احتمالات تلوح في أفق السياسة الدولية، بعضها يخفي الكثير من مخططات تجزئة دول هذه المنطقة، وصولاًالى “شرق أوسط جديد”، يسهل على المؤسسات السياسية، والمالية، والنقدية بان تمسك بأجزائه الصغيرة المتناحرة، وذلك تأميناً لمصالحها وخدمةً لاسرائيل، أما بعضها الآخر،فيشير الى تسويات ناتجة عن مخاوف الدول المخططة لذلك “الربيع”، والمساهمة في تمويله، وتسليحه، من سيطرة الحركات الاصولية المتشردة، وما تشكّله من مخاطر أمنية على هذه الدول بعد إنجاز مهامها، وامساكها بسلطات الدول الشرق الاوسطية.
أما الاحتمالات السلبية المؤدية الى تجزئة المنطقة وصولاً الى “شرق أوسط جديد”، فهي ما اعربت عنها وزيرة الخارجية الاميركية السيدة “كونداليزا رايس” كما ذكرنا سابقاً واصفةً إيّاها بـ “الفوضى الخلاّقة”، وهي في الواقع “تخريبيّة ومدمّرة”، لا “خلاّقة”. والذي نراه اليوم، عبر ما يسمى “بالربيع العربي”، انّما هو عاصفة “خريف عربي” كيما لا نقول “نيازك” يهدّد بالاطاحة بالفصول الاربعة وليس فقط “بالربيع العربي”..
وإزاء هذه الفوضى العارمة وفي ظل تسارع التطورات في الميادين والساحات، يبدواستشراف المستقيل صعباً، ليس فقط في الدول العربية المصابة اليوم بالعاصفة وإنما ايضاً في الدول العربية الأخرى التي لا تزال حتى الآن بمنأى عن التحريض وإثارة القلاقل.
ان للسّاحات العراقية والمصرية والسورية، أهمية مركزية في قلب المنطقة العربيّة،فعواصم هذه الدول الثلاثة تستحضر من ذاكرة التاريخ العربي، وتجارب الدولة الفاطمية في القاهرة، والدولة الامويّة في دمشق، والدولة العباسية في بغداد، فإنّ لهذه العواصم الثلاثة دوراً حاسماً في اي مشروع إقليمي يهدف الى استجماع قوة الدول العربية وتحفيز العمل المشترك فيها فهي من مؤسسي جامعة الدول العربية، وهي تتمتع بثقل وازن في مختلف المعادلات والتوازنات والمحاور في دول المنطقة، وحتى في سائر دول الجوار، وبالتالي فإن الأحداث التي جرت وتجري في هذه الدول الثلاثة تلقي بظلالها على كامل المشهد العربي فضلاً عن الاخطار المحدقة بالدول المجاورة.
وهكذا فإن الصراع الداخلي في العراق يمنع استعادته للمبادرة والخروج من ازمته التي خلفها الاحتلال.
والفوضى في مصر تؤدي الى فتنة تطيح بإمكانية عودتها الى لعب دورها الاقليمي البارز والوازنفي تجسيد المرجعية القومية العربية. والحرب في سوريا تحول، او تؤخر، على الأقل، استمرارها في التوازن الاستراتيجي مع اسرائيل الى جانب ايران، وعودة التوافق العربي وحركات المقاومة في لبنان وفلسطين.
وأكثر من ذلك، فلقد أكّدت الدراسات التي عرضت في المنتدى العربي الأخير في بيروت، بان تداعيات الخريف العربي طاولت، وتطاول، دول الشرق الأوسط قاطبة، ومنها الدول النفطية التي باتت أكثر إعتماداً على النفط الى درجة أن أيّة هزّة تحدث في سوقه ستنال من متعة اقتصاد الدول التي تنتجه، وستؤثر أيضاً في اقتصادات جميع الدول التي تستورده.
ولم تستبعد الدراسات التي عرضت في المنتدى المذكور وطأة أعباء الخريف العربي على النمو الإقتصادي الأوروبي، حيث ستشهد البلدان الأوروبية بصورة عامة، ركوداً اقتصادياً لإنخفاض صادرات الدول العربية إليها، خصوصاً وان نصف هذه الدول تعتمد على السياحة بدرجة كبيرة وعلىالاستثمارات الأجنبية فيها التي لا تزال ضئيلة. وبالتالي فان صندوق النقد الدولي يتوقع بان نسبة النمو فيها لن تتجاوز 2.5% وهو نمو بطيء في ظلّ التعقيدات التي ترافق هذه التحوّلات.
إنّ الصورة القاتمة التي تلوح في الأفق السياسي في المنطقة وفقاً لما تؤكده الدراسات التي عرضت في “المنتدى القومي العربي” الأخير في بيروت تخفي وراءَها الكثير من الحقائق التاريخية فيما يتعلق بمنطق التوسع الرأسمالي الخارجي، والسيطرة الاقتصادية والمالية والنقدية للمؤسسات، والربط العضوي لاقتصادات الدول النامية في العالم الثالث بأسره، بعجلة التطور والنموّ في السوق الرأسمالية الدولية، وعليه يمكن الاستدلال بما سبق بأن سحابة الازمات معرّضة لعدم الانقشاع في مصر والعراق وسوريا ولبنان قبل انقشاع المصير الذي سيؤول اليه الشرق الاوسط.
ولكن هنالك دراسات أخرى نشرت قبل انعقاد المؤتمر المذكورتتضمن تحليلات معاكسة بل قد تكون أكثر إيجابية.
ووفق هذه التحليلات يبدو بعض ما يجري على الساحة الشرق-اوسطية بان المواقف الخارجية ذاهبة باتجاه الارتداد على نفسها، وذلك ما يستدعي من شعوب الدول العربية الاّ تقتتل،فتخسر، ليس فقط أنفسها، وإنما أيضاً أجيالها الطالعة، ايضاً ذلك ان بعض الأمور اختلطت في الفترة الأخيرة، وراحت تتبدل بوتيرة سريعة. فما كنّا نصفه “بالربيع العربي الواعد” الذي أدّى الى استشهاد ونزوح الملايينمنالعرب، لم يقتصر على العالم العربي. فها نحننلمس بأن الدول الغربيةبدورها تواجه “خريفاً” خاصاً بها، يرتد الى أزمات اقتصادية متتالية، كما يبدو من خلاصات المشاركين في مؤتمر “اتحاد المؤسسات الدراسيّة حول الشرق الاوسط” في “دنغر كولورادو”، الذي قدّر عدد المشاركين فيه بثلاثماية باحث، وأربعماية طالب، من كبريات الجامعات الأميركية، طرحوا على أنفسهم السؤال التالي:
“ماذا تعلمنا من سياساتنا في الشرق الأوسط”.. وراحوا يدققون، ويتداخلون، ويسألون ويجيبون عمّا “قبل الربيع العربي”، وما “بعده”، لينتهوا الى الخلاصات التالية:
1) ان هذا الربيع كان فرصة مثمرة ولكنّنا فقدنا براعمه الاولى، فانتهى قبل ان يزهر، بدءاً من نهاية القرن الماضي وصولاً الى اليوم.
2) ان لدول هذه المنطقة مفهوماً غير ثابت، ولم ينضج بعد، كما انه لا يزال متأثراً بالعائلة، والقبيلة، والطائفة والمذهب، ومفهوم الشعب منه واهٍ، وسخيف.
3) ان دولة القانون فيها لها حظوظرغم قوة الاسلاميين المتصاعدة.
4) ثمة قضاياتوجد في هذه الدول مستعصية على الحلّ بالنسبة الى “الصحوة الاسلامية” وقد تكون كافية لانهائها. ومنها الارهاب الاسلامي، الذي يتحوّل عبئاً على اسلاميي السلطة، بعد ان كان رافعةً لها، ومنها ما يختص بعملية السلام مع اسرائيل. ولا حلّ لذلك في العقل الاسلامي إلاّ بالديموقراطيّة.
5) ان منطق التدخل الخارجي لا يجزي، فضلاً عن انه تحوّل الى “كتلة ثلج” تصيب راميها، سواء كان من خلال الاستعمار او من الانتداب أو الاصطفاف الى جانب الحكام “المرتزقة”.
وهكذا يضيف المجتمعون: “إننا قد نكون دخلنا مرحلة جديدة من “التدهور التدخلي” في الكويت سنة 1993، بحجة اجتياح العراق لها. وفي العراق سنة 2003، لخشية بان تهدد جوارها، وفي ليبيا سنة 2011، بحجة تهديدها.
ولقد قال الاميركيون، بعد ساعات من البحث، والمناقشة، والمداخلات، “ان ما تعلموه من منطقة الشرق الاوسط هو ان اسرائيل هي خلاصة الفكر التدخلي والعنصر الكائن لتفجير كل الشرق، ولم يتعلموا من انّ ممارساتهم سياسياً مع “تيوقراطيات” النفط، تشكل تبريراً لقيام اسرائيل، وتتسبّب بإهمال عصرنة المنطقة بكاملها”.
بعد هذا المؤتمر، وإثر بداية ولاية الرئيس الاميركي الثانية: ظهرت ملامح جديدة يتكامل بعضها مع خلاصاته، ومنها تعيين وزيري الخارجية والدفاع الاميركيين الجديدين، عرف أولهما بعلاقة صداقة تربطه بالرئيس بشار الاسد، والثاني، عرف كما أشير بأكثر من وسيلة إعلامية، بمواقعه السلبية من السياسة الإسرائيلية.
ولقد بدأت مؤخراً الصحف الاميركية تشير الى أن الوضع السوري يهدّد بتفجير صراع لا يخرج منه رابح، وان خسارة الاميركيين في هذا الصراع تفوق كل تصوّر، وانهم لا يستطيعون فرض أجندتهم على بلدان الشرق الاوسط، فاللعبة تكاد تكون قد خرجت عن السيطرة، ولا بد للدول المموّلة او المسلّحة للثورة السورية بأن تراجع حساباتها.
ومن الملفت ان تتضمّن وسائل الاعلامإشارات روسية تتطابق مع الموقف الاميركي، ومنها خشيتها من التغيرات الحاصلة في المنطقة الشرق-اوسطية. لا سيّما في ما يتعلّق بسيطرة الاحزاب الاسلامية على الحكم، بأجنداتٍ ملتبسة بعضها يدعم القاعدة علناً، ومع عدم استبعاد ان يكون ثوار “الشيشان” وغيرهم مشاركين في أعمال الثورة السورية، واذا ما تأكد ذلك، فإنه سيكون مقلقاً للغاية، لأنهم سينتقلون بعد إنجاز “مهامهم، في سوريا الى الدول الغربيّة، وهو ما كرره في منتصف شهر شباط الحالي وزير الخارجية البريطانية، وغيره من المسؤولين الأوروبيين…
ان الدول العربيّة مدعوّة الى الأخذ بما يدور في أذهان المسؤولين في الدول الغربية مما يلوح في أفق سياساتها، وفي الوقت عينه من خلال الاحتمالات الايجابية والسلبية التي سردنا تفاحيلها، والبناء عليها بما يؤمن مصالحها، ويقيها المزيد من المخاطر والاضرار، التي لحقت بها حتى الآن، وذلك من خلال تعميم الدعوة للحوار والتعاون والتضامن بين حكامها وثوارها، متجارزين أخطاء الماضي البالغة، ومخططين لإعادة الروح القومية، التي بعكس الاعتبارات الدينية، تجمع ولا تفرق، وبذلك تستقرّ الاوضاع المحتقنة، وتهدأ المواجهات المحتدمة، ما يساعد على مواجهة تفكيكها البنيوي، وإعادة بنائها، وإحباط ما تصبو اليه الدول الخارجية من استغلال ثروات المنطقة العربيّة، من خلال تفتيتها، والتحكم بدويلاتها، بالاضافة الى حماية اسرائيل من المخاطر التي تهدد وجودها مهما طال الزمن.
والى الجماهير الشعبية في جميع الدول العربية الثائرة، والرافعة الشعار الاساسي التالي:
“الشعب يريد…”
نقول بأن ما نستشفّه من قراءاتنا حول ما “تريد” هذه الجماهير، ومن اجتماعاتنا مع العديد من المفكرين، والواعين من نخب الشعب اللبناني، يتبيّن بأن حقيقة ما تريده، عبر انتفاضاتها الجماهرية الواسعة من المطالب. هو تحقيق الديموقراطية التي يجهل بعضهم مضمونها الحقيقي، وذلك ما يستدعي التساؤلعن هذا المضمون. بصورة دقيقة وعلمية.
فما هي الديموقراطية التي يريدها الشعب؟ وهل هي الحلّ؟…
انها بمعناها اللغوي اليوناني “حكم الشعب”، وتستمد أصولها وجذورها، من تجارب العصور المختلفة، حتى ظهرت في العصر الحديث بشقيها السياسي والاجتماعي، واصبحت من أهم المسمّيات التي تحملها أنظمة حكم تختلف في ما بينها حول معنى الديموقراطية ومقوّماتها، ومظاهرها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وهكذا، فان الفقه الدستوري، والسياسي أظهر عدّة مصطلحات وتقسيمات خاصة بالديموقراطية، مثل “الديموقراطية المباشرة وشبه المباشرة”، و”الديموقراطية الليبرالية”، و”الديموقراطية الاجتماعية”، و”الديموقراطية الصناعية”، و”الديموقراطية الشعبية”، و”الديموقراطية الاسلامية”، و”الديموقراطية اليهودية”.
غير ان الديموقراطية، من وجهة النظر المثالية، هي شكل من أشكال الدولة او المجتمع، تتكوّن من خلاله الارادة العامة، وهي نظام سياسي اجتماعي يضعه الشعب دون سواه ، وفي هذا النظام السياسي والاجتماعي تقوم العلاقة بين أفراد المجتمع، والدولة، وفق مبدأي المساواة بين المواطنين، ومشاركتهم الحرة في صنع التشريعات، التي تنظم الحياة العامة.
وهكذا، فإن أساس النظرة الديموقراطية، يقوم على المبدأ القائل بأن الشعب هو صاحب السيادة، ومصدر الشرعيّة وانّ الحكومة مسؤولة أمام ممثلي ذلك الشعب، وهي رهن إرادتهم وتنفيذ القانون بما يصون حقوقهم العامة، وحرياتهم المدنية، وعليه فلا بدّ من وجود المؤسسات الديموقراطية مثل الدستور، والمجالس التمثيلية، والقضاء المستقل، والادارة الحكومية النّـزيهة، والإعلام الحرّ والنـزيه، والمسؤول، الى جانب النقابات والتنظيمات المهنية ذات التمثيل السليم لجمهور هذه النقابات والتنظيمات.
والديموقراطية هي ظاهرة إجتماعية تنتج وحدتها وحكمتها الفرصة لوجود المناقشة الحرة المفتوحة، وعدم قدسية اية من فئاته المستندة الى الاقطاع، والإرث، وربوبية المال، وكل ذلك يستدعي قيام نظم تعددية تمثل كافة المكونات الاجتماعية، على اختلاف اتجاهاتها، ليكون القرار السياسي الديموقراطي الحقيقي ثمرة التفاعل بين هذه المكونات والاتجاهات، وصولاً الى الحلّ الوسط بينها،مع احترام مبدأ الأغلبية، اذا تعذّر الاجماع في اتخاذ القرارات. وكل ذلك في إطار الدولة القانونية الذي من خلاله تتحقق المثل العلي للديموقراطية، والتي قوامها الفصل بين السلطات، وخضوع الحكام للقانون، وإقرار الحقوق الفردية، وتنظيم الرقابة على الهيئات الحاكمة.
هذه هي الديموقراطية، التي ينبغي ان تنادي بها الشعوب العربية، وبخاصة الشعب اللبناني، وهي بالفعل شأن شعبي داخلي، لا تقرره المراجع الخارجية.
إلاّ ان تطبيق هذه الديموقراطية في دولنا العربية بصورة عامة بما فيها لبنان، يواجه معضلات أهمها:
1) التخلف الذي يؤدي الى الابتعاد وعن التنظيم المهني الصحيح، إضافة الى الحزبيّ السياسي، والى تخفيض حجم الطبقة المتوسطة التي تقرب بين الطبقات الاجتماعية بكاملها، وإلى تقليل حقيقة المشاركة والتمثيل الشعبي، وبالتالي الحيلولة دون الاستقرار في المجتمع، والقضاء على الديموقراطية الحقيقية.
2) ارتفاع نسبة الأميّة والفقر، اللذان يعملان على أضعاف الوعي الاجتماعي، وقوة الرغبة في المشاركة، والتعرّض للاجتذاب المالي، الذي يعتبر من أخطر الاضرار التي تلحقبالعملية الديموقراطية.
3) الانقسامات الاقليمية والطائفية والمذهبية، والعنصرية، والعشائرية وكل ذلك يعيق التصرف العقلاني والسليم، ويقف عقبة في وجه القيم والمُثل الديموقراطية.
4) فرض نمط المؤسسات القانونية والسياسية في دول العالم الثالث، من جانب القوى الخارجية، ما يخدم مصالح هذه القوى على حساب تلك الدول، فلا تعود تعبّر عن خصوصياتها الاستقلالية، ولا عن خصائص مجتمعاتها.
5) تأثير المداخلات الاجتماعية في دول العالم الثالث على تحقيق الحدّ الآدنى من المسلّمات والقيم التي تتضمن استمرار التنافس الديموقراطي في جوٍّ سلميّ، وبالتالي استقرار النظام الديموقراطي.
ان معالجة هذه المعضلات في دول العالم الثالث، ومنها الدول العربية، وبخاصة لبنان، تستحيل من خلال وصفة جاهزة.
فالديموقراطية تتحقق عند إكتمال مقوماتها الاولية، وذلك بتوفر بعض العوامل التالية التي تساعد في خلق البيئة المناسبة لظهور الديموقراطية، وتعزيز مؤسسات الحكم الديموقراطي، ومن أهم هذه العوامل وضع دستور ديموقراطي للدولة، واحترام القانون والمساواة القانونية، وحقوق الانسان، وحريّة التعبير، ونشر التعليم، وإنشاء تنظيمات إجتماعية ومهنيّة تمثل قواعدها تمثيلاً صحيحاً ومنزّهاً من الشوائب، والفصل بين كافة السلطات التشريعية، والتنفيذية والقضائية، وممارسة الرقابة على أجهزة الحكم، واحترام التعددية السياسية على أسس غير طائفية أو مذهبية، وبثّ روح المواطنة انطلاقاًمن الوالدين، مروراً بالمدرسة، ووسائل والاعلام،والمراجع الدينية المؤمنة، ونشر الثقافة الضرورية في المدرسة والجامعة، من خلال مادة تعنى بترسيخ المفاهيم الديموقراطية الحقيقية.
والى الشعوب العربية، بدءاً بالشعب اللبناني الحبيب، نقول:
من حقكم بأن تنهضوا لتقديم حضارةٍجديدةٍ الى العالم، نحن بأشدّ الاحتياج إليها، حضارة، يحلّ من خلالها السلام محل الحروب، والتعاون محل الانقسام، والتفاهم محل القهر.
من حقّكم أن تطالبوا بالإصلاح، والتغيير، والديمقراطية، والحرية، والمساواة، فالثورة كما يقول الشاعر نزار قباني “تولد من رحم الأحزان”…
وإذا كانت الديموقراطية التي عرضناها، هي التي تقودكم نحو هذا الواقع الرفيع،فانها لنتتحقق بين ليلة وضحاها. إنهاتتطلب منكم جهوداً حثيثة، ومنظمة، واذا لم تسرعوا وتحسنوا تحقيقها وتنظيمها، وإنجاز ما تشتمل عليه من مضامين وشروط، فان ثمن تحقيقها سيكون مرتفعاً جداً، وقد يتسبب بتوالي الانتفاضات، التي تتحول الى ثوراتٍ، بعضها دموي، ومدمّر…
وعليه، فمن واجبكم ان تستبقوا هذه الثوراتالتي لها ثلاثة وجوه:
الأول: هو “الوجه الفوضوي” الذي يؤدي الى الخراب والبلواء.
إنها “الطفرة التاريخية” التي لا يمكن تحديد توفيت نهايتها، ولا يستطيع أيّ من أطراف النزاع ضبطها، بل ستطرق أبواب الهويّة، والدين، والفكر، متحديّة القيم القومية، والمشرقية،… والإجتماعية،ومنتجةً إشعال الحرب الأهليّة، وصولاً إلى تقسيم الدول جغرافياً وسياسياً، وطائفياً، ومذهبياً، وعنصرياً.
والثاني: هو “الوجه السياسي المعتدل”،أي الوجه الذي يؤدي الى توعية جميع مكونات المجتمع بما فيها المكوّن الحكومي. والسياسي، وما يساعد على تحقيق ما يؤمن حقوق الجميع، بالعدل، والحرية، والمساواة.
ان الإنسان العربي، مدعوّ إلى ادرآك حقيقة ما يجريحتى الآن، ومغادها ان كفّة الميزان تميل الى الماضي أي الى الركود، والجهل، واستحضار القديم، لإنزاله الى الحاضر بعيداً عن الإبداع، وبصورة عشوائية، كما حصل في بدايات القرن العشرين حين عاش بعض المفكرين نشوء الإشتراكية، ونقلوا الإفكار الغربية، وحاولوا تطبيقها على مجتمع غير مهيءٍ لها بعد خروجه من الإحتلال العثماني، والإنتداب الأوروبي.
والحقيقة هي أن هنالك جسراً بين الماضي والحاضر، يحمل التراث، ويجعل منه قوّة دفع للحاضر من جهة، ويعمل بعقل مبدعٍ منتج للإنتقال بالمجتمع الى حالٍ جديد، يتحقق من خلاله التوازن الواقعي المطلوب، ما يتيح التشاور والتداول محلياً وإقليمياً ودولياً، بمرحلة انتقالية تنقل البلاد من أزمتها وتشرذمها الى توحيدها واستقرارها، والمحافظة على سيادة الدولة، وهيبتها، وبناء الثقة بين مكوّناتها، من خلال العدل الإجتماعي. وخلق أجواء الحوار، وذلك ضمن شراكة مجتمعية تكون الدولة فيها صاحبة اليد الأولى في التحكم بها، بالتعاون مع كافة شبكات المجتمع ومؤسساته.
ويتكاملالوجهانالأول والثاني، مع “الوجه الثالث”، الذي هو الوجه الفكري، المعتدل، والبعيد النظر، المتوفر في رجال الاصلاح، والذي يعرف “بثورة المفكرين والمؤرخين والفقهاء”، والذي يستند الى عامل الوقت الذي يعطي لكل مرحلة حقها في النموّ، والتطور وتكوين الذات، والتركيز على تكامل وتوافق مكونات المجتمع وتنشئته الوطنية.التي تساهم في تحقيق الوجه المنشود والمنتظر، الذي يتفق مع مصالح الاجيال المقبلة.. ومع ما يرضي الله، والضمير، والاستقرار الوطني في الآن معاً….
ولد نبيه غانم في بلدة صغبين بالبقاع الغربي، واتم مراحل دراسته من الابتدائية حتى الثانوية في مدرسة الفرير في الجميزة.
حاز غانم على 3 شهادات جامعية، فنال شهادة الهندسة الزراعية من المعهد الزراعي الوطني في غرينيون بفرنسا، كما نال اجازة في الحقوق من جامعة القديس يوسف في بيروت، اضافة الى شهادة دبلوم الدكتوراه في العلوم الاقتصادية من جامعة القديس يوسف ايضا.
شغل غانم عددا من الوظائف الادارية في لبنان وخارجه، بحيث تسلم رئاسة ادارة الثروة الزراعية في لبنان من العام 1958 حتى العام 1964 ، ورئاسة مصلحة زراعة البقاع من العام 1964 حتى العام 1970، ومن ثم رئاسة مصلحة التعاون في البقاع من العام 1973 حتى العام 1992، واخيرا تم تعيينه مستشارا لمجلس ادارة بنك بيروت للتجارة من العام 1992 حتى العام 1997.
كما عيّن غانم مندوبا للبنان لدى منظمة الدراسات الزراعية العليا لدول البحر المتوسط من العام 1980 حتى العام 1993، ونائباً لرئيس المنظمة نفسها من العام 1984 حتى العام 1986.