بعد سورية، انتقل تنظيم داعش إلى العراق ثم إلى الأراضي اللبنانية بشكل رسمي حيث تقدم في الأخيرة في بلدة عرسال ثم تراجع إلى جرودها في خطوة تحمل عدة معاني وتفاسير. وصول داعش إلى لبنان أو الإعلان عن تواجده صراحة جاء بعد فرار المجموعات المسلحة من داعش والنصرة وغيرهما نتيجة سخونة المواجهات مع الجيش السوري وحزب الله في القلمون وجرود القلمون.
من يقرأ عن داعش ويسمع أو يرى مشاهد من تسجيلات عن عملياته وممارساته والتي يحرص على بثها بين أيدي الناس في أسهل الطرق والوسائل المتوافرة بيومياتهم عبر المواقع الاجتماعية. يتلقى بسرعة نسبة لا باس فيها من الدهشة والرهبة أمام ممارساته بينها مبدأ قطع الرؤوس والاختطاف وأساليب أقل ما يقال فيها وحشية يتخذها داعش كهوية ليعرف عن نفسه. بعد اختطاف العسكريين اللبنانيين بين قوى أمن داخلي وجيش لبناني تسارعت أجواء الحديث عن مبادرات واتصالات مع المسلحين من أجل الإفراج عنهم مقابل مطالب لداعش أهمها إطلاق سراح إرهابيين ومسؤولين قادة في التنظيمات الأصولية من سجون لبنان وهم المحكوم عليهم بالإعدام بالقانون اللبناني فيما لم تتم محاكمة جزء آخر منهم. باءت محاولات التفاوض بالفشل، بدأ بهيئة علماء مسلمين لبنانيين وصولاً إلى وسيط قطري وما حُكي عن شخصية سورية وغيرهم ممن تناولتهم وسائل الإعلام إلى أن بدأ التهديد بذبح الرهائن فذبح داعش اثنين في كل منهما قصة، الأولى للضغط على الدولة اللبنانية لتسليم الإرهابيين لديها وإطلاق سراحهم والثانية لمحاولة فراره من مكان الاختطاف. لكن في كلا الحالتين الأمر واحد والذبح واحد والهدف واحد ليبقى السؤال الذي يشغل الجميع في لبنان وخصوصاً أهالي المختطفين وهو هل سيقدم داعش على ذبح باقي العسكريين إذا استمر الوضع على ما هو عليه؟ إذا كان داعش ينوي ذبح العسكريين للضغط على الدولة اللبنانية فإنه بلا شك يحرج نفسه أولاً ويضع نفسه في موقف قد يصعب عليه مهمة الوصول إلى هدفه الأساسي من الإفراج عن من يريد من إرهابيين يطالب بهم لذلك يجب أن يضع نصب أعينه المعادلات أدناه، فتنظيم استخباري أمني مثل داعش متعدد العلاقات يعرف تماماً أن احتمالات الذبح تقلل من نجاعة الهدف الأساس من الخطف والمعادلات هذه تتجسد بالآتي: أولاً: يعرف كل من داعش وجبهة النصرة جيداً أن ظروف اختطاف العسكريين اللبنانيين حصلت بالاعتماد على عنصر المباغتة أو المفاجأة وبظرف ثغرة أمنية قد لا تتكرر ثانية باعتبار أن القوى الأمنية اللبنانية باتت على أعلى جاهزية منذ العملية إضافة إلى ما أجرته من إعادة ترتيب لعناصرها وانتشارها في المنطقة وبالتالي فإن فرصة اختطاف جنود لبنانيين من مختلف الطوائف وبنفس الظروف قليلة جداً إذا لم تكن مستحيلة. ثانياً: إذا تم ذبح العسكريين اللبنانيين جميعهم يفقد داعش الهدف الأساس من وراء اختطافهم وهو «التبادل» وهو أكثر من يسعى لذلك على عكس ما قد يبدو أن الجهة اللبنانية هي من تقع تحت رحمة التهديد إلا أنه في الواقع فإن الحاجة إلى تبادل العسكريين اللبنانيين مع الموقوفين في لبنان في «سجن روميه» تحديداً هو هدف أول عند التنظيم وحاجة أساسية، وبالتالي فإن قتل الرهائن يعني تلقائياً «فقدان عنصر التفاوض والمبادلة» كما أن الشعب اللبناني سيحتسبهم شهداء ككل من قتلوا على مذبح الوطن. رهان داعش وعليه فإن قتل العسكريين لا يعدو خطة مدروسة أو ناجحة ولا شك أن داعش يسعى من خلال القتل والتهديد فيه بشكل رئيسي ضرب عصفورين بحجر واحد من أجل بث الفتنة بين اللبنانيين كرهان أوحد ليتمكن من الدخول إلى باقي الأراضي اللبنانية وسط الفوضى إذا نجح ما يعتقد أنه سينجح تطبيقه بالحالة اللبنانية «من فوضى» كما حصل معه في الحالتين السورية والعراقية. تشير الوقائع والأحداث أن تمدد داعش في البلدان المذكورة سورية والعراق أتى نتيجة فوضى عارمة وسوء تنسيق بين الأمنيين في المناطق التي استطاع إخضاعها لسيطرته وإذا كان سيتمدّد في لبنان فإن تمدّده يجب أن يرفق بتلك العوامل وهي: في سورية: دخل داعش الأراضي السورية على أنقاض فوضى المعارك المتتالية بين «الجيش الحر» أولاً وتنظيم النصرة ثانياً حيث تسلم داعش المناطق بعد قضائه على النصرة. مجموع كل هذا جاء بعد ما سُمي ثورة على النظام السوري بقيادة الرئيس بشار الأسد خلاصته «الفوضى». في العراق: فوضى من نوع آخر استغلها داعش وخطط للوصول إليها عبر خروقات استخبارية أدّت إلى انهيارات مواقع الجيش العراقي بفرار ضباط كبار وإصدارهم أوامر لوحداتهم بإخلاء مواقعهم فدخل داعش بكلّ سهولة. أما في لبنان فإنّ الوضع مختلف تماماً، يحتاج داعش لفوضى مماثلة وخروق أمنية مماثلة للدخول فهو لا يملك ما يمكنه من اعتبار وجوده مرحباً أو مرغوباً به بين مختلف المجتمعات التي يغزوها وعليه فإن العوائق التي يواجهها في لبنان تبدو الأصعب والأعقد على الإطلاق أهمّها:
أولاً: إن الدخول إلى لبنان يعني الدخول إلى مجتمع أمني بامتياز والدخول إلى أرض عايشت الحرب الأهلية لمدة 15 عاماً، يعرف صغيرها وكبيرها كيفية التعاطي الحزبي والميلشيوي وهو مجتمع ممزق ومتعدد الولاءات والاتجاهات وبمعنى أكثر صراحة فإن المجتمع اللبناني يغزوه السلاح من مختلف الأنواع يكاد لا يخلو منزل أو شارع من السلاح أو الأمن ذاتي التابع للحزب هذا أو ذاك وهذا ما افتقده الشعب السوري الذي عاش لعقود بسلام وأمان تحت إطار الدولة ومؤسساتها العسكرية، فلم تعرف الساحة السورية أي سلاح سوى سلاح الدولة ولا أي تجربة حرب داخلية مماثلة كذلك الأمر في العراق فهو يفتقد لنفس الشروط التي تفتقدها سورية وعليه فإن سهولة خرق جهاز واحد أسهل بكثير من خرق أجهزة متعددة وعليه ينتظر داعش في لبنان قتالاً من مختلف الأحزاب أولها حزب الله وثانيها إعلان عدد من الأحزاب المختلفة المتخاصمة سياسياً استعدادها للقتال.
ثانياً: يعرف داعش تماماً أن البيئة الحاضنة في لبنان قد لا تشكل له سوى القليل والضئيل وبالتالي فان مساحة تحركه ضئيلة جداً عكس فسحة التحرك الواسعة بعد سيطرته على مساحات شاسعة من العراق وسورية وهذا ما يفسر انكفاء داعش إلى جرود عرسال أو إلى داخل عرسال متذرّعاً بالنازحين السوريين وبالتالي فلو كان قادراً على غزو لبنان فلماذا لم يقدم على ذلك حتى الساعة؟ تمدد داعش في لبنان يشكل معضلة كبيرة بالنسبة إليه ويؤكد على هذا كلام أمين عام حزب الله عن أن لبنان الصغير قادر أن ينقذ المنطقة برمتها إذا ما تم التوحد حول مواجهة خطر داعش فتصبح الظاهرة في لبنان أصغر بكثير مما قد تكون إذا ما تم إهمال وجودها والاتحاد حول مواجهتها.