كانت بهية ناصيف آخر اللبنانيين واللبنانيات العائدين من فلسطين المحتلة يوم الجمعة الفائت. عادت في صندوق خشبي حمل سنواتها الثلاث والخمسين، منها 15 عاماً أمضتها في إسرائيل التي فرّت إليها مع عائلتها، كالمئات من عناصر جيش لحد وعائلاتهم. كان يمكنها أن تعود حية إلى بلدتها دبل (قضاء بنت جبيل) كما فعلت سواها من زوجات العملاء وقريباتهم. لكن، شأنها شأن كثيرين وكثيرات أيضاً، حالت موانع كثيرة دون قرارهم بالعودة، إما خوفاً من رد فعل الناس بسبب ما ارتكبوه في زمن الاحتلال، أو لشعورهم بالغربة في مسقط رأسهم بعد مرور عقد ونصف، أو حتى لقناعة البعض بصوابية قراره بالعيش في كيان العدو.
«عماد رجع». تناقل أهالي البياضة (قضاء صور) الخبر همساً. قطع ابن البلدة عماد عليان، منتصف حزيران الماضي، معبر رأس الناقورة، عائداً من فلسطين المحتلة بعد 15 عاماً على فراره وعائلته مع جيش العدو الإسرائيلي. قبل شهر واحد، سبقته زوجته أسمهان مع ولديه علي (15 عاماً) ومحمد (13 عاماً). وعلى غرار العائدين والعائدات، تولت البعثة الدولية للصليب الأحمر الدولي نقل الرجل الأربعيني إلى الأراضي اللبنانية قبل أن يسلَّم لاستخبارات الجيش التي نقلته إلى وزارة الدفاع للتحقيق معه وإحالته على القضاء العسكري الذي قد يصدر، كما درجت العادة، القضاء حكماً بسجنه لثلاث أو أربع سنوات.
يعد عليان واحداً من قلة من العملاء الرجال الذين عادوا أحياءً. لكن عودة أسمهان (43 عاماً) لم تكن هادئة كاللواتي سبقنها. فقد افتعلت ضجيجاً أثار الجدل مجدداً حول سلوك المجتمع المقاوم تجاه «لبنانيي إسرائيل». فور عودتها، توجهت إلى منزل زوجها في رأس البياضة لتحريره من «المحتل»، ابن عمتها فضل هسي، الذي أقام في المنزل الفارغ بعدما هجره سكانه، واستحدث قسماً لاستخدامه كمقهى، بناءً على اتفاق بينه وبين شقيق زوجها عصام (لم يجدد منذ سنوات). أبرزت أسمهان إفادة سكن من المختار تؤكد أن والد زوجها كان يقيم في المنزل بعدما اشتراه من عميل من خارج البلدة، وحوّله مكتباً أمنياً لجنود العدو وعملائه، إذ يكشف موقعه ساحل جنوبي صور وصولاً إلى الناقورة، ثم شيد بجواره منزلاً آخر. علماً بأنّ المنزلين يقعان ضمن مشاع بلدة المنصوري المجاورة. اصطحبت أسمهان حشداً من أقربائها الذين تعرضوا بالضرب لأبناء هسي وللعمال وقطعوا الطريق احتجاجاً حتى أقفلت قوى الأمن الداخلي المقهى بالشمع الأحمر حتى التوصل إلى تسوية بين الطرفين.
حتى ذلك الحين، تقيم أسمهان في منزل والدها في البلدة حيث قصدناها. عند الباب، استقبلنا ابنها علي الذي يتحدث بعربية «مكسّرة». حولها، تحلّق شقيقاها وزوج شقيقتها الذين عادوا من فلسطين المحتلة بعد أشهر من التحرير وأمضوا محكوميتهم القصيرة. توضح أسمهان أن والد زوجها ووالدته وشقيقه وشقيقته لا يزالون هناك. لماذا العودة الآن؟ أجابت: «حاول مراراً العودة. تسلل إلى الشريط الشائك لناحية لبنان، محاولاً اجتيازه قبل أن يلقي الجيش الإسرائيلي القبض عليه ويسجنه». الفترة التي أمضاها في السجن «أخّرت العودة، علماً أنه يعاني من مشاكل صحية». تقول أسمهان إنها اضطرت إلى العمل في مهن مختلفة لإعالة ولديها. «كانت الحياة صعبة وتعذبنا كثيراً». قبل أربعة أشهر، اتخذت القرار النهائي بالعودة بعد خروج الزوج من السجن. حزمت الأسرة حقائبها، وأبلغت الصليب الأحمر الدولي، وتوقفت عن إرسال الولدين إلى المدرسة من دون إبلاغ مسبق. دهمت الشرطة المنزل وأوقفت الوالد بسبب تسرب ولديه من المدرسة. سجن الوالد وعادت أسمهان مع ولديها، وقدمت طلباً للصليب الأحمر الدولي لمساعدتها على استعادة زوجها.
أهالي البياضة لا يذكرون لعماد ارتكابات فظيعة بقدر ما يحفظون ذلك عن والده محمد وعمه قاسم، أبرز العملاء الأمنيين اللذين استحدثا، على إحدى تلال البلدة، «موقع عليان» نسبة إلى العائلة التي انخرط عدد كبير من أفرادها في التعامل مع العدو. «تعاملنا مع الأمر الواقع» يقول والد أسمهان. أما والدتها، ابنة عم محمد وقاسم، فبررت التعامل بأن الرئيس نبيه بري «وجه نداءً عبر الراديو إلى سكان الشريط المحتل، دعاهم إلى البقاء في أرضهم وعدم تركها. سمعنا كلامه وبقينا. فهل هذا ذنبنا بأننا لم نترك أرضنا وبيوتنا للغرباء؟». تستاء لأن نعت «العميل» لا يزال يلاحق أبناءها وعائلتها.
كيف يعيش الولدان اللذان ولدا ونشآ في إسرائيل وتعلما في مدارسها؟ تقول أسمهان إنهما يلعبان مع أترابهما من أولاد إخوتها وأقربائها، وتنوي إرسالهما إلى المدرسة لكي يندمجا كلياً في مجتمعهما الأصلي.
جميع سكان البياضة من آل عليان ويتشابكون بقرابة ونسب ومصاهرة. لذلك، تضامن معظمهم مع أسمهان وولديها. لكن تضامن البياضة ليس ثقافة عامة. في البلدة نفسها، أسرة المفقود عبد الله عليان الذي سبّب قاسم عليان اعتقاله وإخفاءه عام 1981 لرفضه التعامل، تاركاً خلفه زوجة وتسعة أطفال. قبل عامين، عاد قاسم جثة هامدة. لم تتوان العائلة عن التعاطي معه كأي «مرحوم»، فدعت إلى مراسم تشييع ومجلس عزاء وحفل تأبيني. لكن أسرة عبد الله اقتحمت الحسينية وأجبرتهم على دفنه بصمت.
ردّ فعل الجنوبيين على عودة العملاء أحياءً وأمواتاً تتباين بين بلدة وأخرى بالتعاطي مع العملاء العائدين. لكنها، في أقساها، لم تصل إلى حد الانتقام ممن سبّبوا مآسي كثيرة أيام الاحتلال. قبل أسمهان، عادت زوجات عملاء آخرين لا يزالون في الأراضي المحتلة. بكل بساطة وهدوء، انتقلن للعيش في بلدات جنوبية أخرى، أو في بيروت!
“نقليات” الصليب الأحمر الدولي
من بين بعثات قليلة حول العالم، يسمح للصليب الأحمر الدولي في لبنان بنقل “الأشخاص بين لبنان وإسرائيل”. تقول سعاد مسعودي، منسقة القسم الإعلامي في لبنان، إن اللجنة “تعمل كوسيط إنساني محايد بدور معترف به من الجهتين وتساعد في العمليات الإدارية واللوجستية”. نقل الأشخاص عبر معبر رأس الناقورة، إجراء تقني بسيط تستخدم فيه سيارات البعثة، لكن تنفيذه يتطلب تحضيراً متعدد الوجوه، “بالتنسيق مع الجهات المعنية، وبناءً على طلب من الأشخاص الذين يرغبون في العودة (وليس من السلطات). إذ تتأكد من أن القرار بمحض إرادتهم الحرة” تقول مسعودي. لا تعنى اللجنة بالأسباب الكامنة وراء رغبة الأشخاص في العودة إلى وطنهم. ووفقاً لمبدأ السرية “لا نشارك علناً أي بيانات شخصية من أجل حماية خصوصية الناس”.
وساعدت اللجنة، منذ أوائل الثمانينيات، بنقل الآلاف من المدنيين والمعتقلين السابقين والجثث. لكن بعد تحرير الجنوب، لم تشركها الدولة اللبنانية بعمليات إعادة عائلات العملاء حين كلف المطران بولس صياح، مطران الأراضي المحتلة للموارنة سابقاً، من قبل الحكومة لتنسيق العودة. بعد عدوان 2006، أُسندت المهمة إلى اللجنة التي أسهمت بنقل 82 شخصاً، معظمهم من النساء والأطفال و262 جثة.
قانون تسوية أوضاع العملاء
ينص قانون “معالجة أوضاع المواطنين اللبنانيين الذين لجأوا إلى إسرائيل” الذي أقره مجلس النواب عام 2011 على مادة وحيدة تقول: “يخضع المواطنون اللبنانيون من ميليشيا جيش لبنان الجنوبي الذين فروا الى الأراضي المحتلة في أي حين للمحاكمة العادلة وفقاً لأحكام القوانين اللبنانية المرعية في حال عودتهم الى لبنان، ويلقى القبض عليهم عند نقطة العبور من الأراضي المحتلة ويسلمون الى وحدات الجيش اللبناني. أما المواطنون اللبنانيون الآخرون الذين لم ينضووا عسكرياً وأمنياً، بمن فيهم عائلات المواطنين من زوجات (أو أزواج) وأولاد، الذين لجأوا الى الأراضي المحتلة في 25 أيار 2000، فيسمح لهم بالعودة الى لبنان ضمن آليات تطبيقية تحدد بمراسيم صادرة عن مجلس الوزراء، دون أي قيد أو شرط سوى تسجيل أسمائهم لدى وحدات الجيش اللبناني الموجودة عند نقطة العبور التي يسلكونها أثناء عودتهم من الأراضي المحتلة”.