وجه مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان رسالة بمناسبة رأس السنة الهجرية الجديدة الاتي نصها:
الحمد لله ذي الفضل والإحسان ، شرع لعباده هجرة القلوب وهجرة الأبدان ، وجعل هاتين الهجرتين باقيتين على مر الزمان، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له، وعد المهاجرين إليه أجرا عظيما قال تعالى : ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما [النساء : 100]، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، هاجر إلى ربه فأواه وحماه ، صلى الله عليه وسلم يوم أن قال : (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)، صلى الله عليه ، وعلى آله وأصحابه الذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله ، وآووا ونصروا، حتى فتحوا القلوب والبلدان، ونشروا العدل والإيمان والإحسان.
أما بعد أيها المسلمون، مع حلول كل عام هجري جديد، يقف المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها محتفين بعام جديد ، ومستذكرين أحداث الهجرة النبوية الشريفة ، التي تستحق الوقفة المتأنية ، لأنها كانت في حقيقتها ، حدثا بالغ الأهمية في تاريخ العرب والمسلمين، إذ أنها لم تكن نزهة ولا رحلة سياحية للترفيه والتفرج والاطلاع، ولم تكن سفرا وانتقالا لتحصيل متع الدنيا وملذاتها، وإنما كانت انتقالا من أجل الحفاظ على العقيدة ، وتضحية بالنفس والمال والأهل والولد، من أجل العقيدة، فهي تبدأ من أجل العقيدة ، وغايتها العقيدة.
أيها المسلمون، تحل ذكرى الهجرة النبوية في هذا العام ، في ظروف بالغة العسر والصعوبة على العرب والمسلمين . فرسول الله صلوات الله وسلامه عليه، ما كان يريد الهجرة . لكن قومه أخرجوه . وقد كان عليه الصلاة والسلام بين أحد خيارين ، إما أن يتوقف عن القيام بالدعوة الهادية، التي أمره الله سبحانه وتعالى بتبليغها تحت ضغوط قريش ، وتعرضها للذين اتبعوه، أو أن يتابع دعوته، ولكن من خارج مكة . لقد فرض سادة قريش وطغاتها عليه، وعلى الذين تضامنوا معه من بني قومه ، حصارا في الشعب دام ثلاث سنوات، بلغ من سوء حالهم خلالها أن أكلوا ورق الشجر، وهلك منهم كبار وصغار جوعا. وعندما انفك الحصار من حوله، طلب إلى القادرين من أصحابه، وقد تعرضوا للتعذيب والقتل والإكراه على الإنكار، أن يذهبوا إلى الحبشة، لأن ملكها المسيحي – كما قال لهم رسول الله : لا يظلم عنده أحد، ولا يضطهد بسبب دينه، ثم اضطر عليه الصلاة والسلام للهجرة بنفسه إلى يثرب، وتبعه العشرات من أتباعه، الذين ما استطاعوا المضي إلى الحبشة من قبل.
لا أعز على المرء من وطنه ودياره وأرضه، ليس بسبب ذكريات الطفولة والفتوة والشباب – كما ذكر الشاعر ابن الرومي – فقط، بل ولأن وطن المرء مرتبط ارتباطا وثيقا بإنسانيته ووجوده وحريته، وحقه في اختيار المقام، أو الرحيل أو السفر والعودة . إن الوطن عزيز، وكذلك الحياة والحرية . ولذا فإن المسلمين عندما يتذكرون هجرة نبيهم ويحتفون بها ، إنما يريدون تذكر عدة أمور مترابطة أولها الإصرار على القناعات الكبرى المتصلة بالحق والحرية، حرية الرأي والمعتقد؛ ولو كلف ذلك الإصرار مغادرة الأهل والديار، وثانيها حق الإنسان في أرضه ووطنه، وحقه في الدفاع عنهما بما يكلف الحياة أحيانا، ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ناضل، وناضل أصحابه معه، حتى عاد إلى موطنه، بعد ثماني سنوات منتصرا على من أخرجوه، وما حقد ولا فكر بالثأر، بل قال لمضطهديه: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
أما ثالثها فالدروس والعبر من الهجرة، والتي علمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن الإرادة الصلبة والقوية، والإيمان العميق بالحق الذي يمتلىء به العقل والقلب، كل ذلك يحول المأزق والأزمة إلى فرصة، ويفتح أفقا ما كان ليتاح لو بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت تسلط مضطهديه . يقول الله سبحانه وتعالى: ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما[النساء : 100]. ورابع تلك الدلالات ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالهجرة إلى أرض تتوافر فيها لهم الحرية، وكانت أرض الحبشة المسيحية. وهكذا فقد كان المسيحيون أول أصدقاء الدعوة الجديدة، وأول أصدقاء أهلها.
فلنتأمل كل هذه الوقائع التاريخية والرؤيوية والتشريعية، التي نتعلمها من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسائل الأوطان والهجرة والعودة، وطرائق التعامل مع من يتعرضون لديننا وديارنا، ومن هم أصدقاء المؤمنين الذين اضطروا للهجرة، ووجدوا عند أولئك المأوى والحرية . يقول الله سبحانه وتعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين [الممتحنة : 8]. هذا مبدأ عام لا استثناء فيه ولا تخصيص: العلاقة بكل البشر إنما هي علاقة بر وقسط . والقسط هو العدل والإنصاف. ويتجاوز البر ذلك إلى التفضل، ولذلك قدمته الآية على القسط . فلا يداخل علائقنا بسائر البشر اختلالٌ إلا في حالتين: الاعتداء على ديننا، وإخراجنا من ديارنا وأوطاننا . والذي يحدث في فلسطين اليوم، بل ومنذ العام 1948 يتضمن الأمرين: القتال في الدين، بمحاولة اغتصاب المسجد الأقصى، والإخراج من الديار بالاستيطان الجاري على قدم وساق. هناك ملايين الفلسطينيين الذين هجروا من ديارهم، وجرى الاستيلاء عليها ، وهذا فضلا عمن قتل في الصراعات الضارية، الدائرة على أرض فلسطين منذ عقود وعقود . الله سبحانه وتعالى يسمي في سورة البقرة الإخراج من الديار “فتنة”، ويقول إنها أشد من القتل . والفتنة هنا تعني الحرب الشاملة . فماذا نقول عن ثمانية عشر مليون عربي تهجروا في أقل من خمس سنوات؟! وما هجرهم الصهاينة هذه المرة، بل هجرتهم الفتن الضارية. إنها الحرب الشاملة التي تقتل الإنسان، وتخرب العمران، وتترك الحليم حيران، كما قال الإمام علي كرم الله وجهه ورضي عنه.
إن هذا هو الفرق بين الهجرة والتهجير، في الحال والمآل. فالهجرة وإن تكن نتيجة ضغط وإرغام. فإن مآلاتها يمكن أن تكون مآلات خير وفرج ، كما كان عليه الأمر في هجرة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ، وقد سمى القرآن هذه الحالة، وسماها رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: الهجرة في سبيل الله . أما التهجير فيعني الحرب والخراب ، ولا شيء غير، وهو يصبح داعية فتنة لا تنتهي، وهي تعني في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرب الأهلية والعياذ بالله . ثم ما هو المشهد الذي نعرضه عن أنفسنا للعالم، حين يصل إلى أطراف القارة الأوروبية من مشردين أكثر من عشرة آلاف كل يوم؟
لقد مضت سنوات على المسلمين في عهد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، كان فيه “المستضعفون” هم الذين لا يهاجرون، مع إمكان التنكر لدينهم تحت الضغط . أما اليوم، فإن المستضعفين الذين لا يملكون سلاحا ولا أملا ، هم الذين يهاجرون، أما الآخرون فإنهم منهمكون بالتقاتل على حساب الإنسان والعمران.
يقول الله سبحانه وتعالى: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين [البقرة : 208] . لنعد إلى لبنان، ولنعتبر بمصاب الجيران في التهجير من الديار والأوطان . الله سبحانه وتعالى يدعونا للسلام الشامل فيما بيننا، ويسمي مسالك النزاع: خطوات الشيطان. لقد كان شبان هذه المنطقة، وبخاصة اللبنانيين والسوريين، يهاجرون طلبا للعمل والرزق. لكن الذي يتهدد شبابنا الآن هو التهجير، إما خوفا على الحياة، أو لانسداد الأمل والأفق.
أيها المسلمون، أيها اللبنانيون، في ذكرى هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نتذكر صبره وكفاحه عليه الصلاة والسلام، وتركه لوطنه من أجل الحق، ولكي لا تكون هناك فتنة. ونتذكر سلوكه عليه الصلاة والسلام، عندما عاد إلى مكة، وكيف احتضن بني قومه، وقال لهم: لا تثريب عليكم، أنتم الطلقاء. ما أراد عليه الصلاة والسلام أن تصبح الهجرة تهجيرا أو فتنة. نحن شعب واحد، ولنا وطن واحد، ودولة واحدة؛ فلنوقف الانقسام، ولنستعد المؤسسات، من أجل الخروج من الحرمان والخوف، ومن أجل ألا نفقد شبابنا في ديار الاغتراب، أو مهاوي الفتنة.
أيها اللبنانيون، إن وطننا لبنان يرزح تحت ضغوط الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ونحن نخشى على بلدنا من تداعيات هذه الأزمات التي ستفضي، إن استمرت وزادت، إلى تقويض الاستقرار وأمن المواطنين والمؤسسات. إن بعض الحراك الشعبي، يمعن في الفوضى والتخريب في الأملاك العامة والخاصة والتصادم مع القوى الأمنية، نحن مع المطالب المحقة والمشروعة للحراك الشعبي، والتعبير عنها يجب أن يبقى ضمن الإطار السلمي، وإلا سوف تكون النتائج غير مقبولة من الجميع ، وستحل الفوضى محل مناشدات الإصلاح.
إنني أتوجه إلى الشباب بالقول: حقوقكم ومطالبكم يجب أن تبقى ضمن الإطار السلمي الحضاري الراقي ، في الوصول إلى هدفكم، شرط المحافظة على الاستقرار والأمن ، ومن يعتدي على أملاك الدولة وأملاك المواطنين، وعلى القوى الأمنية، هو في حقيقة الأمر يعتدي على نفسه وعلى أهله ووطنه، فلبنان لكل أبنائه. إن الدولة هي لكل اللبنانيين، وهيبتها ينبغي أن تبقى مصونة من قبل الجميع ، وسقوطها هو تدمير للوطن، ونحن على قاب قوسين أو أدنى من أمرين في لبنان، فإما انتخاب رئيس للجمهورية، وبانتخابه تكون بداية حل أزماتنا ، وإما الشلل العام في كل المؤسسات الرسمية، لذا علينا جميعا أن ندرك خطورة ما يمر به وطننا ، فيا قادة الحوار الوطني ، لا تخرجوا من اجتماعاتكم التحاورية ، إلا وأنتم على توافق وتفاهم تامين، حول انتخاب رئيس للجمهورية أولا، وإلا فإننا جميعا سنكون مشتركين في هدم آمال اللبنانيين، بوطن ينعمون فيه بالأمن والاستقرار والأمان.
لا نريد أن نفقد شبابنا ووحدتنا، وعيشنا المشترك أيضا ، في الحروب المقدسة التي تشن على شعوبنا وبلداننا. كنا نظن أن الحروب المقدسة تشنها إسرائيل ويشنها داعش، ويضاف إليها الآن، بل ومنذ مدة، حروب أخرى لها العنوان نفسه، وهدفها الأول، زعزعة وحدة المسلمين، والعلاقة بين المسلمين والأرثوذكس، الذين لم تتزعزع علائقنا بهم منذ استقبل النجاشي الحبشي المسلمين في أول عهد الدعوة. لا نريد أن نخيف العالم، ولا أن نخاف منه. وسنظل الأكثر حرصا على الدعوة إلى السلام والعدالة والحرية والتضامن في ديارنا ومع العالم. قال تعالى: ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم [فصلت : 33 – 35]. اللهم هبنا نعمة الأمن والاستقرار، وأزل الأحقاد من قلوبنا، وأعنا على تجديد عهود الأخوة والتضامن والسلم في ديارنا، إنك سميع مجيب.
الصلاة والسلام على الرسول المهاجر، الذي أخرجنا بالدعوة التي حملها من الظلام إلى النور، ومن النزاع إلى السلام. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته”.