لا يُمكن لأيّ نصّ مسرحيّ أو تلفزيونيّ يؤلّفه كميل سلامة ويُحقّقه، ألاّ يكون نقداً سجاليّاً مغلّفاً بجماليات فنية، وأن يعتمد أحياناً توريةً أو احتيالاً، أو يبنيه على فعلٍ مباشر وواضح وشفّاف وصادق. دأبه في هذا يعود إلى سنين مديدة. يمثّل في تنويعات مسرحية وتلفزيونية وسينمائية. لكن ـ عندما يجلس أمام طاولته لكتابة نصّ خاصّ به ـ يذهب بعيداً في نقده السجاليّ أحوالاً وانفعالات وسلوكاً وثقافة تربوية. توريته والاحتيال صائبان. يؤثّران هما في المُشَاهِد الذي يُتقن فنّ المُشاهدة، لا كالمتلقّي الذي يتسلّى ولا ينتبه. يمنحانه متعة التفاعل معهما أيضاً، وإن بهدوء وسكينة. الفعل المباشر يمتزج بسخرية مريرة، ويجعل الضحكة مفتاحاً لمخفيّ ومبطّن، يريد كشفهما عبر خشبة مسرح غالباً، أو داخل بلاتوهات التلفزة أحياناً قليلة.
تشريح
يأبه كميل سلامة لوقائع العيش اليوميّ في بلدٍ ينهار فيه كلّ شيء. يخوض معارك من أجل تصويبٍ، لكن الهدف الأساسيّ كامنٌ أساساً في ابتكار صنيع ذاتيّ. لا يُخضِع عمله لنزوةٍ إصلاحية أو تصحيحية أو توجيهية، وإن تتضمّن أعمالٌ له بعضاً من هذا، بشكل أو بآخر. فهو، إذ يعتلي مسرحاً أو يدخل «بلاتوهاً»، يهتمّ أولاً ودائماً بمعنى الاشتغال الفنيّ الحقّ، وبمغزى الصورة أو الحركة في مقاربتهما مضامين هذه المادة المختارة أو تلك. يُصيب الجرح في مكمنه. لكنه يسعى جاهداً ـ عندما يبدأ قولاً أو بوحاً ـ إلى احترام الشاشة والخشبة، فيكون بهذا فناناً أصيلاً، ولعلّ هذا يكفيه فيفرح بإنتاجه، الذي يُشرِّح حالاتٍ لبنانية مستعصية، هي سببٌ لألمٍ ناتجٍ من الانهيار الفظيع أيضاً.
في «إنجازات حياة» (2015)، لا يبتعد كميل سلامة عن عالمه الأثير. يختار ذاتَه مادةً، ولا يتردّد عن وصف مسار له تتشابك فيه أحواله وتتعقّد، لأن البيئة المحيطة لا تبلغ مرتبةَ نضوج ثقافي، ولأن نظاماً متكاملاً متحكّماً بأحوال بلد وناسه ينصرف عن كلّ جهد صادق، وينفضّ عن كلّ نقاش جدّي، وأن يتوصّل الجهد والنقاش معاً ـ بلغة كميل سلامة ـ إلى تعرية صادمة لواقع معروف، وإلى فضح مكنونات الواقع هذا بتفاصيلها كلّها، وبتنويعات خباياها السلبية والإيجابية معاً.
ممتع هو نصّ «إنجازات حياة». نصّ يكتبه كميل سلامة ويُخرجه ويكون أحد ممثليه، فيكون النصّ نفسه كميل سلامة. لن تقف المُشاهدة عند متابعة وقائع النصّ، لأنها تتحوّل سريعاً إلى معاينة كميل سلامة الإنسان الفرد والفنان المقيم في بيئة اجتماعية معيّنة. ينطلق من ولادة، ومن مشاعر تنتاب مولوداً جديداً إزاء أول عالم يراه (المستشفى والناس الذين فيها). يذهب في مسالك ومنعرجات. التربية العائلية. أول صدمة (موت قريبة). بداية رحلة مسمّاة «الحياة». المدرسة ومفاعيلها. العوالم المختلفة المحيطة بكل فصل من فصول عيشه. هذا كلّه منبثقٌ من لحظة تكريم تفتعلها جمعية كي تفرض نفسها في الاجتماع اللبناني كفاعلٍ عمليّ في شؤون الثقافة والفن. هناك الشيخوخة، وانتظار الضوء في النفق، والرغبة في كسر قواعد صارمة هي أساس تربية قديمة. والناس لا ينتبهون إليه إلاّ بوصفه «فناناً» يُخيف مشاهدي مسلسله التلفزيوني «عشرة عبيد زغار»، الذي يبقى ـ بالنسبة إليهم ـ إنجازه الوحيد.
سلاسة أداء
قاسية هي سخرية كميل سلامة، لشدّة واقعيتها وشفافيتها وصدقها. قاسية ومؤلمة، وإن يُقدّمها عملُه الأخير هذا بنكهةٍ تُضحك، وبمرارةٍ توجع وتؤذي، عندما يُدرك المُشاهدُ حقيقةَ انغماسه فيها وعيشه إياها فيراها أمامه على خشبة كميل سلامة. يروي ألماً ناتجاً من اختزاله في عملٍ واحد. يتخيّل تكريماً لن يختلف أبداً عن تكريمات جمّة هي، في غالبيتها الساحقة، تشاوفاً وادّعاءً وتلميعَ صورةٍ اجتماعية لمن يُكرِّم على حساب من يُكرَّم. قاسية هي سخرية كميل سلامة والضحكة التي يبرع دائماً في صنعها. ضحكة نابعةٌ من القلب، لكنها مغمَّسة بوجع سنين ووقائع وانفعالات. وبذهابه صوب الموت، يريد تأكيد بهاء المواجهة، تماماً كجمالِ إبداعه في مواجهة انحلالٍ واهتراءٍ وعفن.
لن يكون كميل سلامة الممثل الوحيد في «إنجازات حياة». يُجمِع حوله شباباً يُقدِّمون وجوهاً مختلفة من سيرته. بعضٌ أوّل يمارس مهنةً أدائية، فيجعل التمثيلَ حقيقياً وحيوياً إلى حدّ المرارة، وإن يرتفع صوتٌ من هنا، أو يتعالى ادّعاءٌ قليلٌ من هناك لتأكيد بشاعة تصنّع في نفوسٍ ومسالك. بعضٌ ثانٍ يخرج من الإطار خطوات متواضعة، ربما لأنه انعكاس كميل سلامة شخصياً في العمل، فإذا بهذا البعض الثاني ـ فؤاد يمّين تحديداً ـ يتحرّر من «سطوة» المؤلّف ـ المخرج، كي يُطوِّع الأداء في فعلٍ كوميديٍّ يميل باتّجاه بلورة صورة أجمل لدرامية الحبكة.
«عشرة عبيد زغار» (1974، تأليف آغاتا كريستي، اقتباس وسيناريو وحوار لطيفة ملتقى، إخراج جان فيّاض) يُطارد كميل سلامة إلى ما بعد موته على خشبة «إنجازات حياة». إنها ذروة الانهيار، لأن مطارديه بالمسلسل هذا جاهلون مساراً يختطّه لنفسه سنين طويلة. لكن، هل فعلاً يسخر كميل سلامة من تواصل آخرين معه بناء على العمل هذا فقط؟
أثناء ذلك، لا يتوانى عن تعليق انتقاديّ لوقائع معروفة داخل العائلة وخارجها، وداخل المدرسة وخارجها، وداخل المستشفى وخارجها، وداخل جمعيات تدّعي ثقافة وخارجها، وداخل إعلام وخارجه. لا يتوانى عن جلب الموت إلى الخشبة كي يسخر منه، فإذا بالموت يُريه امتداد مفاعيل الحياة إلى ما بعدها، فيحاول مصالحة أخيرة معه ومع مساره التاريخي.
في «إنجازات حياة»، يجعل كميل سلامة ذاتَه مرايا بيئة واجتماع وبلد وناس، ليُحطِّم ويُفكِّك ويقول ويبوح، فيُقـــدِّم عملاً مسـرحياً يُشكّل خطوة إضافية في معنى الاشتغال الفنيّ.
نديم جرجوره
(]) «إنجازات حياة» لكميل سلامة، تمثيل جيزيل بويز وداني بستاني ولارين خوري وفؤاد يمين وإدون خوري واستير كامبل. من الأربعاء إلى الأحد، لغاية 20 كانون الأول 2015، على خشبة «مسرح الجميزة».
«إنجازات حياة» لكميل سلامة.. سخرية الواقع
0